مصر والخليج بعد المصالحة

مصر والخليج بعد المصالحة

12 يناير 2021
+ الخط -

يكتسب التقارب الخليجي الراهن، والذي تمثّل في انعقاد القمة الخليجية، الحادية والأربعين في العُلا السعودية، 5 يناير/ كانون الثاني الجاري، أهميةً حقيقية، لكونه يمثّل خطوة "تكيّف" مهمّة، قامت بها الرياض، بالتزامن مع اقتراب مغادرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، البيت الأبيض. وعلى الرغم من توقيع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، على بيان متفق عليه في قمة العُلا، فإن موقف القاهرة من المصالحة الخليجية لا يزال يثير تساؤلاتٍ جدّية، قد تكشف "ارتباكاً" و"غضباً مكتوماً"، بسبب اهتمام الرياض بطيّ صفحة الخلاف مع الدوحة، من دون تلبية الشروط التي دأب النظام المصري وأذرعه الإعلامية على تكرارها، على مدار ثلاث سنوات ونصف السنة، بالإضافة إلى تجاهل السعودية شروط الإمارات (والبحرين) التي تريد "وضع العصي"، لتعطيل دولاب المصالحة. 
تحليلياً، يبدو أن القاهرة لا تزال تتمسّك بفهمها السابق لتوازنات الخليج العربي و"الإطار العربي"، في مرحلة ما قبل الثورات العربية عام 2011، حينما كانت الرياض تحتل موقعاً محورياً ومؤثّراً، بما يكفي لضمان أن تلعب دور "القاطرة"، لدول الخليج الأخرى، مثلما كانت مكانة مصر في العالم العربي، إبّان عهد جمال عبد الناصر، حتى هزيمة يونيو/ حزيران 1967؛ إذ شكّلت الهزيمة تراجعاً واضحاً، في مكانة مصر والدول العربية كافة، بالنسبة للنظام الدولي، ما انعكس على تدشين عملية التسوية الأميركية. وهو تراجعٌ، استمر حتى فرض "الحظر النفطي" العربي، على أميركا والدول المساندة لإسرائيل، في حرب أكتوبر 1973. 

باتت دول الخليج والسعودية تتمتع بما يشبه "الفيتو" على السلوك المصري، على الرغم من أزمات سياسة سعودية إقليمية

بيت القصيد أن النظام المصري، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، لم يعد يملك القدرة على فرض توجهاته ورغباته على دول الخليج والسعودية التي باتت تتمتع بما يشبه "الفيتو" على السلوك المصري، على الرغم من أزمات سياسة سعودية إقليمية، بدايةً من حرب اليمن، ومروراً بحصار قطر، ووصولاً إلى علاقات الرياض المضطربة، مع إيران وتركيا، على خلفية عدة ملفات إقليمية.
ولئن كان صحيحاً القول إن مشاركة مصر في عهد حسني مبارك في حرب تحرير الكويت 1991 أسهمت في حضور مصر وسورية، آنياً، في معادلات أمن الخليج العربي، كما تمثّل في إعلان دمشق 6 مارس/ آذار 1991، فإن "أمركة" هذا الملف أصبحت من أهداف سياسات واشنطن تجاه الخليج والعراق، على الرغم من "معارضة" إيران ذلك، سيما بعد احتلال العراق عام 2003 الذي أبرز دور طهران الإقليمي، وأظهر محاولاتها الهيمنة على الخليج العربي، أمنياً وسياسياً، مع التركيز على تقليص مخاطر الحضور الأميركي والبريطاني والإسرائيلي في الخليج، مع "تسامحٍ" إيراني، نسبي، مع الحضور الروسي والصيني والهندي، وربما التركي والباكستاني أيضاً. 
وعلى الرغم من أن تدهور مكانة مصر ليست مسألةً آنية، كونها ترتبط بأخطاء "هيكلية/ بنيوية" في توجّهات الرئيس أنور السادات، سيما بعد زيارته إسرائيل عام 1977، فإن التاريخ لم يبخل على بلد الكنانة باستعادة قدرٍ من المكانة المستحقة، بعد ثورة 25 يناير (2011) التي أنعشت فرص القاهرة مؤقتاً، في تبنّي سياسات إقليمية توازنية، في الخليج وغيره من الأماكن، بما يحقّق مصالح مصر واستقلال سياساتها الخارجية، مع تخفيف اعتمادها على المساعدات الأميركية والأوروبية، قبل أن يسارع انقلاب 3 يوليو (2013) في تخريب ذلك المسار التوازني الذي يزيد دور مصر العربي والأفريقي.

تُظهر مسألة "تمثيل مصر" (في قمة العُلا) أن هناك خللاً في إدراك النظام المصري وشعوره بإمكانية فرض شروطه على الدوحة

ويبدو جوهر المشكل الراهن في اعتماد تكتيكات النظام المصري تجاه الخليج على نظرةٍ جامدة، "تنكر" المتغيرات الاستراتيجية الحاصلة في بنية النظامين، الإقليمي والعالمي؛ إذ تُظهر مسألة "تمثيل مصر" (في قمة العُلا)، عبر تسريب أنباء عن عزم الرئيس عبد الفتاح السيسي حضورها، بعد معرفة مستوى تمثيل قطر فيها، أن هناك خللاً في إدراك النظام المصري وشعوره بإمكانية فرض شروطه على الدوحة، في أزمةٍ خليجية "من ألفها إلى يائها"، ليس لمصر فيها ناقة ولا جمل، إلا دعم موقفي السعودية والإمارات، في تكثيف الضغط على الدوحة، عبر استحضار الثقل الديمغرافي والسياسي والعسكري المصري، في إمكانية تنفيذ سيناريوهات خطيرة.
وقد بات معلوماً للكافة أن مواقف وزارتيْ الخارجية والدفاع الأميركيتيْن، ناهيك عن مؤسستَي الأمن القومي والاستخبارات، كلها كانت معترضة على "ارتباك" سياسات دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، وتحيزاتهما ضد قطر، أول اندلاع أزمة الحصار، التي تم تصحيحها تدريجياً، وصولاً إلى تدشين الحوار الاستراتيجي الأميركي القطري، يناير/ كانون الثاني 2018. 
واللافت هنا هو استشعار الرياض، بمجرد فوز جو بايدن في الانتخابات الأميركية 2020، أهمية تعديل سلوكها الإقليمي أو تكييفه، عبر "التخفّف" من تبعات حصار قطر وحرب اليمن واستعداء تركيا، تجنّباً لأية ضغوط مستقبلية عليها، يمكن أن تمارسها إدارة بايدن، في سياق سعيها إلى إعادة المسار التفاوضي مع إيران. وذلك في مقابل "تردّد" مصر، في مراجعة سياساتها الإقليمية، على الرغم من عودة قضية تصفية الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، إلى الواجهة، واحتمال تبنّيها أوروبياً بشكلٍ رسمي.

مطلوبٌ من القاهرة، سيما مع اقتراب ذكرى ثورة 25 يناير، القيام بعملية مراجعة "جذرية" لتوجّه سياساتها الخارجية

واستطراداً في تحليل مستقبل المصالحة الخليجية، ليس مطلوباً، ولا ممكناً، إلغاء الاختلافات الخليجية، أو السعي إلى توحيد الرؤى والسياسات، لكي تتطابق مع سياسات السعودية، ولكن التوافق على الحد الأدنى من "التضامن الخليجي والعربي"، المستند إلى أسس ومصالح اقتصادية واجتماعية وأمنية، مع "تحييد" الخلافات السياسية، وحصرها في أضيق نطاق، والكفّ عن نقلها إلى الجوانب غير الرسمية في العلاقات الخليجية البينية، والعربية البينية أيضاً، خصوصاً عبر التحريض الإعلامي، والتآمر السياسي مع قوى دولية، لمعاقبة الشعوب العربية المكلومة، عبر أدوات إكراهية (مثل الحصار الاقتصادي والسياسي، والتهديدات العسكرية، وشنّ الحروب الفعلية والإلكترونية .. إلخ). 
مطلوبٌ من القاهرة أيضاً، سيما مع اقتراب ذكرى ثورة 25 يناير، القيام بعملية مراجعة "جذرية" لتوجّه سياساتها الخارجية، وإيلاء الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية والآسيوية ما تستحقه من اهتمامٍ، مع السعي إلى مزيدٍ من الاعتماد على الذات والدمقرطة والتنمية واحترام حقوق الإنسان، والتخليّ عن وضعية تلقي المساعدات الخارجية، خصوصاً الأميركية والأوروبية والسعودية والإماراتية، وتفعيل وساطاتها ودبلوماسيتها، (مثلما فعلت الدبلوماسية الكويتية في استضافة الحوار اليمني عام 2016، وموضوعي حصار قطر و"صفقة القرن"؛ إذ اكتشفت قدراتها التوازنية، التي زادت دورها خليجياً وعربياً). 
هذه "المراجعة" ستعين مصر في استعادة دورها الذي تشتد الحاجة إليه عربياً وأفريقياً وإقليمياً، بدل أن يحصر النظام نفسه في أدوارٍ "زائفة"، (من قبيل "مكافحة الإرهاب"، أو حصار قوى التغيير السلمي والشبابي، واستهداف الإخوان المسلمين)، ما يضرّ المصالح الحقيقية للشعب المصري الذي يريد علاقات صحية مع محيطه العربي، وليس مع المحور الأميركي الإسرائيلي الذي يوظّف الديكتاتوريات العربية لإعاقة أي مسار عربي نهضوي أو استقلالي أو تنموي.
المؤكد أن اعتماد الرياض والقاهرة على قدراتهما الذاتية، مع تطوير شبكة تحالفاتهما العربية والإقليمية، وإيجاد مبادراتٍ لحل الأزمات الإقليمية، سيكون أجدى من مواصلة الرهان على "الدعم الأميركي المتقلّب".

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل