مصر والتريليونات الستة لمكافحة الفقر

مصر والتريليونات الستة لمكافحة الفقر

25 يناير 2022

(رباب نمر)

+ الخط -

أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في أثناء انعقاد منتدى شباب العالم في دورته الرابعة في شرم الشيخ، تصريحاً نارياً بأنّ الدولة أنفقت أكثر من ستة تريليونات جنيه مصري (400 مليار دولار)، خلال السبع سنوات الماضية لمواجهة الفقر، وهي أرقام مبالغ فيها كثيراً وكفيلة بأن تقضي على الفقر متعدّد الأبعاد تماماً، وليس فقط فقر الدخل أو فقر الخدمات العامة، والواقع يشير إلى تضاعف مؤشرات الفقر منذ العام 2016.
يعتمد المسؤولون المصريون على الافتراض القائل إنّه "لن يعدّ أو يراجع أحد وراءنا تلك الأرقام"، فعند البدء في مشروع قناة السويس الجديدة، صرحوا بأنّها ستدر على مصر مائة مليار دولار، لم يقولوا خلال كم من الأعوام ولا في أيّ أجل، ثم جاءت التقارير لاحقاً لتفيد بأنّ حصيلة رسوم العبور في قناة السويس لم تتطور بأكثر من الزيادات البسيطة المعتادة، وهي أبعد ما يكون عن هذه الأرقام في المدى المنظور، لأنّ التجارة الدولية كانت وما زالت في مرحلة ركود، كان أصغر باحثي الاقتصاد يتنبأون بها ويعرفونها قبل حفر القناة التي قيل لاحقاً إنّها لرفع الروح المعنوية للمصريين.
والحقيقة أنّ هذه التريليونات الستة من الجنيهات أو الأربعمائة مليار دولار لا يمكن التصديق مطلقاً أنها صرفت، لأنّ ما أنفق على كلّ البنود المرتبطة بالفقر ارتباطاً مباشراً وغير مباشر لا تشير، من قريب أو بعيد، إلى تلك الأرقام، إلّا إذا كان السيسي يعد أنّ كلّ ما يخرُج من الموازنة العامة للدولة هو إنفاق على الفقراء ومكافحة للفقر، فمجموع ما أنفق على بند الأجور، مضافاً إليه ما أنفق على قطاعات الصحة والتعليم والسكن، مضافة إليه كلّ برامج الحماية الاجتماعية القديمة والجديدة، في هذه السنوات السبع لا يعادل هذا الرقم. بل إنّ الصين، صاحبة العدد الأكبر من السكان الذين تم انتشالهم من الفقر في العالم، بحوالي 700 مليون إنسان انتشلوا من الفقر خلال الـ40 عاماً الماضية، لم تطلق تصريحاً بهذه الأرقام، فمخصّصات الحكومة المركزية لمساعدة الفقراء بلغ حجمها المتراكم عبر هذه السنوات الأربعين 600 مليار يوان (أقل من 95 مليار دولار)، وهو ما يثير عشرات الأسئلة عن الكفاءة في إدارة هذه النفقات في الحالة المصرية.

انخفض الدعم الموجّه إلى المزارعين بشكل قاسٍ خلال السنوات الماضية، في إطار برامج الإفساد الاقتصادي التي تعتمد على التقشّف

يكفي القول إنّه إذا افترضنا أن هذا الرقم الذي أطلقة السيسي صحيحاً، فنصيب كلّ مواطن من الـ32 مليون فقير الذين تعترف بهم التقارير الرسمية، وأنتجت فقر كثيرين منهم وعزّزته السياسات الاقتصادية للنظام المصري، سيكون 187.500 جنيه مصري، وهذا مبلغ كان كافياً أن ينقل كلّاً من هؤلاء ومصر معهم نقلة نوعية، إذا أعطي لهم في أيديهم مباشرة من دون عناء من الحكومة.
كتبت الباحثة الاقتصادية المصرية النابهة سلمى حسين، قبل نحو عامين، في صحيفة الشروق المصرية، مقالين بعنوان "ارتفع الإنفاق الاجتماعي فارتفع الفقر... أين الخطأ؟"، يشيران، كما دراسات اقتصادية محلية وعالمية عن الاقتصاد المصري، إلى ماكينات لصناعة الفقر في مصر، وأنّ على مصر، إذا أرادت أن تقلص عدد الفقراء، وقف عمل تلك الماكينات التي توقع ملايين جدداً كلّ عام بين براثن العوز والجوع، فهي لن تستطيع ذلك بالاعتماد على زيادة المساعدات النقدية أو العينية التي تقدّمها الحكومة، على أهمية الاثنين. وتدني الأجور هو أهم ماكينة تنتج ملايين الفقراء كل عام (إلى جانب غياب سياسات زراعية تؤازر صغار الفلاحين، وخصوصا في الصعيد، ولا تحابي كبار المنتجين الزراعيين وحدهم).
والحقيقة أنّ السياسات الاقتصادية للنظام الحالي لم توقف عمل هذه الماكينات، ولم تبطئ عملها حتى، بل تعمّقت السياسات الزراعية المنحازة للكبار بشكل كبير، ورأينا كيف انخفض الدعم الموجّه إلى المزارعين بشكل قاسٍ خلال السنوات الماضية، في إطار برامج الإفساد الاقتصادي التي تعتمد على التقشّف الذي لا يطاول عادة إلا الفقراء والمنتجين الصغار، فيما ارتفعت فاتورة دعم الصادرات، لتصل في عام واحد لأكثر من 25 مليار جنيه.

قادت سياسات التعويم للعملة المحلية إلى انخفاض كبير للإنفاق الحقيقي على التعليم والصحة والسكن والأجور والدخول الحقيقية

رأينا أيضاً كيف عزّزت السياسات سيطرة بعض الشركات الزراعية الكبرى الإماراتية والسعودية مع حلفاء محليين على نصيب الأسد من تخصيصات أراضي المشروع الزراعي الأكبر في مصر، وفي مقدمها مشروع المليون ونصف المليون فدان، حتى أن المسؤولين بدوا مستائين من نمط إنتاج الألبان الحالي، ويسعون إلى تحقيق احتكار فيه لصالح شركات تابعة للجيش، بينما الأفضل لمكافحة الفقر أن تعمّق سياسة توزيع الأرباح وزيادتها للمزارعين الصغار.
رأينا أيضاً كيف قادت سياسات التعويم للعملة المحلية إلى انخفاض كبير للإنفاق الحقيقي على التعليم والصحة والسكن والأجور والدخول الحقيقية، على الرغم من الزيادة النقدية في قيمتها، بفضل التضخم الذي ارتفع إلى أكثر من 32% في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2016، وكيف انعكس ذلك على معدلات الفقر التي وصلت إلى أكثر من 32.5%، بالتوازي مع برامج الإنفاق الاجتماعي الهزيلة التي صاحبت برنامج الإصلاح الاقتصادي، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي في هذين العامين، فبالقطع لم ولن يوازي أثر تلك البرامج الأثر الكارثي للتضخم الناجم عن تلك السياسات الاقتصادية الكلية التي ليس للمواطنين دخل فيها ولا رقابة لهم عليها في نظامٍ كهذا.
في الأسابيع الماضية، وبينما تعلن الدولة المصرية عن سياسات لرفع الحد الأدنى للأجور، وهي بالقطع سياسات جيدة، لكنّها تتراجع عن أي إلزامية بهذا الحد الأدنى للأجور للقطاع الخاص الرسمي وغير الرسمي الذي يعمل فيه حوالي ثلاثة أرباع القوة العاملة، ويحظى بامتيازات عديدة، مثل الإعفاءات الضريبية والجمركية، ودعم الطاقة، وتطوير سريع للبنية التحتية التي تخدمه. وليس الحديث هنا عن إجراءات اشتراكية ولا يسارية - لا سمح الله - بل إنّها إجراءات متبعة في أعتى الرأسماليات النيوليبرالية، حيث لا يستطيع أحد أن يشغّل عاملاً بأقلّ من الحدّ الأدنى للأجور، وإلّا يتعرّض لمساءلة قانونية قاسية.
نتحدث عن مجتمع مفترض أنّه أنفقت فيه ستة تريليونات جنيه لمكافحة الفقر في سنوات سبع، بينما يموت أطفال منه غرقاً في النيل في أثناء ذهابهم للعمل بحثا عن يومية 25 جنيهاً (أقل من دولار ونصف دولار)، بينما ينفق مليارات على القصور الرئاسية والمنتديات الشبابية والمواكب، ثم لا يفترض بنا أن نراجع تلك الأرقام والتصريحات!