مصر وأحزابها التي لا تسعى إلى السلطة

16 يناير 2025
+ الخط -

أطلّت علينا الصحافة المصرية و"إعلام السامسونغ"، قبل أيام، بخبر تأسيس حزب الجبهة الوطنية في مصر، الحزب الذي اقترن خبر الإعلان عنه بمقولة أشبه بالمزحة، حيث صرّح بعض قياداته قائلين "لسنا حزب موالاة ولا معارضة ولا نسعى إلى السلطة"، ومثل هذه العبارة لا تخرج عن تلاميذ في الصف الأول الابتدائي في أي بلد فيه أحزاب وسياسة ومعارضة وسلطة ودولة حديثة.

ومع أن قيادات في الحزب الجديد ذكرت أن تأسيس حزب الجبهة الوطنية سببه الفراغ السياسي الناتج عن ضعف الأحزاب القائمة، كما أن دور الأحزاب في النظام الحالي بات محدوداً وغير مؤثر، حيث تركّز أنشطتها على أمور بسيطة تشبه دور الجمعيات الخيرية، من دون تقديم أي برامج إصلاحية أو أدوار سياسية فعّالة حيث تغيب السياسة، إلا أن التصريحات المتصدّرة ركّزت على مسألة عدم السعي إلى السلطة، حيث كان هو التصريح و"الكوميك" الأبرز بشأن الأخبار حول الحزب.

يتكوّن الحزب من خليج عجيب وغريب من الشخصيات المقرّبة من السلطة الحالية سواء وزراء أو نواب سابقين أو حتى شخصيات عامة من نقابات أو فنانين وصحافيين ورجال دولة، لكن العنصر الأغرب هو عدم التجانس بين هذه الشخصيات وتياراتها السابقة، ولا يجمعها سوى أنها أقرب إلى شخصية الـ"موسى مصطفى موسى"، ذلك المرشّح الرئاسي المستدعى لإجراء الانتخابات الرئاسية الشكلية، والذي لا يتحرّج من دعمه عبد الفتاح السيسي، رغم افتراض أنه مرشّح منافسٌ له في انتخاباتٍ يفترض بنا أن نصدّق أنها انتخابات وأنها حرّة ونزيهة، وليس أننا في جمهورية "كأن".

وبطبيعة الحال، تدرك كل هذه القيادات أنه لا معنى للسعي إلى السلطة، في ظل نظام غير سياسي، تفخر قيادته بأنها غير سياسية، وهو بطبيعته عسكري قادم على ظهر الدبابة، ولا يعير للشارع ولا للأحزاب ولا البرلمان أو البيروقراطية أي اهتمام سوى من ناحية التحكّم الأمني في كل ما يصدُر من هذه الأشكال والمظاهر السياسية للدولة والنظام من حيث المبدأ والتسيير اليومي والمنتهى، وما يخرج عنها من قراراتٍ أو عملياتٍ يفترض أنها تكون سياسية.

البنية القبلية وشبكات المصالح الموالية للنظام والمسيطرة على مفاصل القرى والمدن غير كافية لإرضاء رئيس يدّعي أن الوضع الحالي ليس بحكم عسكري

وإذا لم تكن هذه القيادات تدرك ذلك فهذا يعني أنهم لا يفهمون معنى كلمة السياسة أو يفرغونها من مضمونها، تماما كما فرغ السيد الرئيس البلاد من السياسة والسياسيين، واحتقرها إلى أبعد مدى، فالرئيس ليس سياسياً والأحزاب ليست سياسية، ولا تسعى إلى السلطة وهؤلاء جميعا يحتاجون رحلة للعلاج والاستجمام والبحث عن المعنى في المرحلة العدمية التي أدخلوا البلاد والعباد فيها.

فإذا لم تكن الأحزاب، بطبيعتها وبتعريفاتها البديهية، تنظيمات سياسية تسعى إلى السلطة، فهل هؤلاء المنضمون لها مجرّد نشطاء بيئيين أم مدافعين عن حقوق البطاريق أم مدافعين عن حق الديكتاتوريات العسكرية في البقاء في السلطة إلى الأبد؟

يفيد موقع الهيئة العامة للاستعلامات المصرية بأن عدد الأحزاب في مصر ما قبل تأسيس الجبهة الوطنية هو 87 حزباً، فهل كان ينقص مصر وجمهوريتها الجديدة حزب جديد لتكتمل الصورة أم ماذا حدث لكي يستدعى هؤلاء لتشكيل حزب جديد؟ هل قصرت الأحزاب الحالية وقادتها؟ هل يهدف إلى إعادة بناء تحالف "30 يونيو" الذي تصدّع وهل قصرت البرلمانات والكيانات التي صنعت على أعين الأجهزة السيادية في الحفاظ على هذا التحالف؟

بطبيعة الحال، قد تكون هناك استشارات قدمت للرئيس بضرورة أن يكون لديه حزب سياسي أشبه بالحزب الحاكم المقترن بأي ديكتاتورية عسكرية تسعى إلى الخلود في السلطة، وتعتبره المقياس الوحيد للنجاح في عالم السياسة التي يحكمها غير السياسيين. وهنا يشير بعضهم إلى سياق اقتراب الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي عادة ما اقترنت ببعض التحالفات والقوائم الانتخابية للمتنافسين في تقديم الولاء للسلطة وأجهزتها الأمنية والسيادية المسؤولة عن تشكيل ملفّ البرلمان وإدارته في إطار المسموح به.

بين حين وآخر، يشير السيسي إلى حالة من عدم الرضا لديه عن أداء الدولة برمّتها، بأحزابها وبرلمانها وإعلامها، وكأنهم لا يقدّمون الولاء الكافي له، فهو عندما يرى صعوبة تطبيق المحافظين قانون مخالفات البناء يهدّد بتعيين محافظين عسكريين وأمنيين، وكأن مجلس المحافظين الحاليين لا يسيطر على أكثر من ثلثيه محافظون قادمون من مؤسّسات عسكرية وأمنية، ثم هو يتهدّد بتعيين ضابط لكل قرية، وكأن البنية القبلية وشبكات المصالح الموالية للنظام والمسيطرة على مفاصل القرى والمدن غير كافية لإرضاء رئيس يدّعي أن الوضع الحالي ليس بحكم عسكري.

بين حين وآخر، يشير السيسي إلى حالة من عدم الرضا لديه عن أداء الدولة برمّتها، بأحزابها وبرلمانها وإعلامها، وكأنهم لا يقدّمون الولاء الكافي له

بطبيعة الحال، لا تخفي هذه التحرّكات، سواء لإنشاء أحزاب جديدة أو اتحادات قبلية أو محاولات دمج الاثنين معا، أن هناك امتعاضاً ما داخل النظام وعلى هوامشه، سواء من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تواصل التدهور، أو من خوف أي تغييرات مفاجئة مع حلول يناير وكل يناير مكروه في مصر، سواء بخطابات الرئيس وإعلامه وصحافته، أو مع تطورات الأحداث في سورية، والتي أدّت إلى فزعة كبيرة واستنفار لدى الأجهزة الأمنية، سواء على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي عجّت فيها صفحات الذباب الإلكتروني بتحذيرات من مصير سورية، وكأن الشعب السوري هو المسؤول عن صور الدمار التي تبثها هذه الصفحات وتربطها بالثورات باعتبارها مصدر تخريب وهدم.

لم يقف الأمر عند حد ضم شخصياتٍ مشكوكٍ في مصادر ثرواتها وارتقائها وتاريخها الإجرامي، بل صاحبت عملية توكيلات تأسيس الحزب استعراضات عبر عربات الدفع الرباعي، التي لطالما ارتبطت نظيراتها في مصر والمنطقة باستعراضات المليشيات المسلحة والتشكيلات القبلية، وقادت، في النهاية، إلى قبلنة الدولة وتدميرها ذاتياً، وهي المخاوف التي تراود مصريين كثيرين، جراء إيجاد مليشيات موازية للجيش، ودمجها في الاقتصاد والأحزاب وكل مناحي الحياة.

لا تقتصر العبثية في المشهد المصري على أفكار العجائز مؤسّسي الحزب الجديد، فهي تذكّرنا ببعض النشطاء والشباب الصغار المتمتّعين بقدر من الرعونة، عندما كانوا ينتمون إلى أحزاب نشأت بعد الثورة. وفجأةً، ينشقّون، معلّلين ذلك بأن معركة هذه الأحزاب معركة كراس، وتسعى إلى الحكم والسلطة وكأنها سبّة، وهو ما ساهم في تحول عديدين من هؤلاء لنشطاء ومعارضة من أجل المعارضة، من دون بناء أطر ومؤسسات وتنظيمات سياسية يتفق أقصى اليمين مع أقصى اليسار في العالم على أهميتها في ممارسة السياسة، فإذا لم يكن الحزب الجديد معارضةً ولا موالاةً ولا يسعى إلى السلطة، فلماذا يسمّي نفسه حزباً سياسياً، وماذا يضيف للحياة السياسية غير رقم جديد في قائمة الأحزاب؟