مصر التي لم تعُد تعرفنا

(محمد عبلة)
ما زالت موائد المصريين الرمضانية طقساً لا يفقد دفئه وأنسه وزخمه الاجتماعي، في داخل مصر وخارجها. وتحوّل إفطار المطرية الذي شغل مواقع التواصل الاجتماعي سنواتٍ حالةً تنافسيةً بين أحياء مصر ومحافظاتها، ولم تعدم هذه الإفطارات الشعبية تدخّلات سلطوية لزجة لأخذ "اللقطة"، ومزاحمة البسطاء في فتات بهجتهم، أمّا في الخارج فالموائد الرمضانيّة فرصة لاستحضار مصر التي نعرفها، في مواجهة مصر التي لم تعُد تعرفنا. تراجع الكلام عن دراما رمضان، رغم تقدّمها مقارنة بالأعوام السابقة. وباستثناء السخرية من ملابس مسلسل معاوية وديكوراته التي لا تقل مسخرةً عن محتواه، فلا حديث عن دراما الشاشات، إنما الحكي كلّه عن دراما الواقع المصري. والحكايات الأكثر إنسانية و"لحماً ودماً" هي حكايات غير المسيَّسين، وغير المطلوبين، وغير المستهدفين من الدولة المصرية، حكايات المسموح لهم بدخول مصر.
لم تعد هناك "مشتركات" بين عشرة مصريين يجلسون إلى مائدة واحدة، ولا يعني الحديث في أيّ موضوع سوى "خناقة" محتملة، واتهامات، ومزايدات، وتكسير عظام. حتى أحاديث كرة القدم باتت مجالاً للتشكيك في ذمّة من يتحدّث ونيّاته وانحيازاته الوطنية والأيديولوجية (والأخلاقيّة!). ولكنْ، ثمّة موضوعان رئيسان مكرّران ومشتركان بين الجميع، من مختلف التوجّهات. الأول حكايات تخريب مدن المصريين، أحيائهم، وهُويَّاتهم البصرية، وتواريخهم الشخصية. يمتدّ الكلام عن جرائم الاعتداء على "القرافات" التاريخية في القاهرة الإسلامية إلى ممارساتٍ لا تقلّ همجية في كلّ مدينة، وحين تسمع من مصريين عاديين عما حدث في الشوارع، وفي الميادين، وفي البيوت القديمة ذات الطابع التاريخي، وفي معالم رئيسة في كلّ مدينة؛ بوابات، وأسوار، وقلاع، وطوابٍ، ومآذن، ومقابر، وبيوت رموز وطنية، وسياسية ودينية وثقافية وفنّية، وبيوت مواطنين عاديين، لا ذنب لهم سوى وجودهم في مرمى "التطوير"، الذي يعتبرهم عائقاً يجب إزالته، بلا خطّة وبلا رؤية وبلا تعويضات "حقيقية". حكايات لا تنتهي، ولا تتوقّف، ولا تختلف باختلاف موقع الراوي من السلطة الحالية، فالمؤيّد هنا قبل المعارض، لديه حكاية، لا يريد أن يحكيها.
الثاني، أن كلّ شيء يحدث رغم كلّ شيء، رغم الاعتراضات، ورغم المناشدات، ورغم التوسّلات، ورغم الشكاوى، ورغم الوعود بالنظر في الشكاوى، ورغم الوعود أحياناً بالتراجع عمّا يؤذي الناس. لا شيء يتوقّف، لا شيء يُراجع، لا شيء يُرشَّد، لا شيء يُؤنسن، ما زالت الاعتداءات على البشر (الذين ما زالوا في قيد الحياة) مستمرّةً بالسجن والاعتقالات وتشويه السمعة وقطع الأرزاق وخطف المعارضين والمواطنين والأطفال (آخرهم الطفل محمد خالد جمعة، طالب في الصف الثالث الإعدادي)، وإخفائهم قسرياً. يحدث ذلك كلّه (وغيره) رغم الكلام عن "حوارات وطنية" و"صفحات جديدة" و"مراحل غير المراحل" و"غد غير الأمس".
ما زال الاعتداء على الأموات مستمرّاً، الاعتداء على جثثهم، والاعتداء على مكانهم، والاعتداء على مكاناتهم، والاعتداء على القيمة من وراء ذلك كلّه ما زال يحدث، حتى كتابة هذه السطور، رغم صراخ المتخصّصين، وخططهم البديلة، ومناشداتهم المستمرّة، ومقابلاتهم مع المسؤولين، وطمأنة المسؤولين لهم.
ما زال بيع الأصول المصرية مستمرّاً، وبأبخس الأثمان؛ الأرض، والشواطئ، والمؤسّسات الحكومية، والمصانع، والشركات، والبنوك، ما زال علاء عبد الفتاح، وآلاف غيره، قيد الاعتقال، رغم انتهاء مدد أحكامهم التي لم تكن يوما عادلة، ورغم مطالبات عشرات المنظّمات الحقوقية، ورغم توسّلات الأهل، ورغم الإضرابات، ورغم الاعتصامات، ورغم الحيوات المؤجّلة، والمعلّقة بكلمة، بقرار لن يكلّف الدولة شيئاً، وربّما يضيف إليها، لكنّه أكبر من أصحابه.
ما زالت أوضاعنا الاقتصادية في انحطاط، لم يرفعها اعتقال أساتذة الاقتصاد، الذين كتبوا وحذّروا واقترحوا حلولاً، ما زالت أوضاعنا القانونية والحقوقية في تردٍّ، لم يُنعشها اعتقال الحقوقيين واعتقال محاميهم واعتقال من يتحدّث عنهم في مقالة أو "بوست"، ما زال كلّ شيء في طريقه مستمرّاً، لا يلوي على شيء، ولا يأبه لأحد، ولا تعنيه المصائر أو المآلات. ما زال... ما زال... وغداً قريب.