مصر التي لا حدث فيها

26 مارس 2025
+ الخط -

لا تنقص المشهد العربي شواهد على الخراب الذي يجعل بلدان المنطقة، ما عدا في الخليج الثري، كتلة محرومة من كل أشكال الحياة الكريمة. ومثلما تُعلّمنا الدروس، فإنّ موت السياسة يجرّ خلفه سلسلة من حلقات الفشل في الميادين كافة، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً. وبما أن الحال مستمرٌّ على هذا السوء منذ سنوات طويلة، كان الأمل كبيراً باحتمال أن تخرج سورية ثم لبنان من نادي "الأحياء من قلّة الموت". لكن سرعان ما أُحبط المتفائلون بسورية جديدة في المدى المنظور، وبقدرة رجلين اثنين في لبنان، أحدهما رئيس جمهورية والثاني رئيس حكومة، على اجتراح معجزاتٍ ولّى زمنها كما هو معروف. والموت العربي الفعلي أشكاله معروفة، في فلسطين واليمن والسودان بوتيرة متواصلة، وفي لبنان وسورية بنسقٍ متقطّع. أما الموت السريري في بقية البلدان العربية مثل العراق وتونس وليبيا والمغرب والجزائر والأردن، فلا بد أن يعمل المرء في الصحافة العربية اليومية لكي يلاحظ علاماته الكثيرة وغير المرئية بالنسبة إلى مواطنٍ عربيٍّ قليل التسييس وضئيل الاطلاع على أخبار تحصل خارج حدود بلده.

لكن للخواء المصري وقعاً صادماً ومؤذياً لا ينافسه أذى أو صدمة في مكان آخر نظراً إلى مساحة هذا البلد وتاريخه وقوته العسكرية وأهميته في زمن مضى، وعدد سكانه وموقعه السياسي الذي نحاول أن نقنع أنفسنا عن حقّ، أو تعلقاً برومانسية حالمة، بأنه لا يزال يحتلّه. ولو أمكن إجراء استفتاء عربي سريع عن آخر حدثٍ كبير شهدته مصر ويتذكّره أي شخص غير مصري، في السنوات العشر الأخيرة، ما عدا افتتاح سجن عملاق وإغلاق مسارح أبوابها وغرق عبّارة في النيل واصطدام قطارين وسقوط مبنى شيّده مهندس فاسد وبيع أصول البلد وثرواته إلى حكومات أجنبية، لرُبطت ألسنة كثيرين، لا بسبب ضعف الذاكرة، إنما لصعوبة العثور على ما حصل ويستحق التذكّر. لكن حدثاً مصرياً حضر وبقوة في الأيام الماضية وشغل الإعلام ووسائل التجهيل الاجتماعي، على شاكلة انتقادات وجّهها عبد الفتاح السيسي لشكل الدراما الرمضانية ونوعها ورسائلها في بلده، ليصبح أعلى منصب في الدولة ناقداً فنياً أو مصلحاً اجتماعياً أو مبشراً أخلاقياً، ورئيس الجمهورية ليس هذا ولا ذاك ولا ذلك، لا في مصر ولا في غيرها، مثلما أن وظيفة الفنّ ليست بالضرورة "تعزيز الأخلاق والقيم الأصيلة"، ولا "تقديم أعمال تحمل رسائل إيجابية".

ولمتحمّسين لموقع مصر وحجمها السياسي والديمغرافي أن يعتبروا، ربما عن حقّ أو عن مبالغةٍ وتمسّكٍ بما نخالها بديهياتٍ وهي لم تعد كذلك، أنه ما كان للمنطقة العربية أن تبلغ كل هذا الضعف لو لم تكن مصر على هذا القدر من تصحّر سياسي وما ينتجه إفراغاً للمجتمع من نخبته وخسارته معظم معالم حيويّته، أحزاباً ونقابات وصحافة جديرة باسمها ونشاطاً ثقافياً لا يمكنه أن يكون نشطاً إلا لو كان حرّاً، ويستحيل أن يكون حرّاً طالما أن البلد أسير سلطة تجمع في مواصفاتها بإدارة السياسة الداخلية قمع العسكر وفقر المخيلة وتكريس الولاء في التعيينات بدل الكفاءة. أما في العلاقات الخارجية، فهي سلطةٌ لا تجيد فنّ إدارة المقدرات واختيار اللحظة المناسبة للإقدام على مغامراتٍ محسوبةٍ لا بد منها أحياناً كثيرة عندما تُقاس احتمالات فشلها حتى بثمن عدم الإقدام عليها، وهو كلام ينطبق خصوصاً على موقع مصر الذي لا تُحسَد عليه وسط المذبحة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين عند حدودها الشمالية الشرقية.

وليس صحيحاً أن مصر فقدت أدوات قوتها منذ وقّعت اتفاقية السلام مع إسرائيل، بل على الأرجح العكس هو الصحيح، أي أن تلك الاتفاقية أعطت للدبلوماسية المصرية ما لم تكن تمتلكه قبل عام 1978، حين أصبح لدى أميركا وإسرائيل والغرب عموماً ما يخشونه من مصر. لكنّ اللعب بأوراق القوة لا يتحقق تلقائياً، بل يحتاج إلى سلطة سياسية لديها اهتمامات أكبر من رصد مسلسلات رمضانية وملاحقة تدوينات معارضين على "فيسبوك" وبناء عاصمة إدارية وسط الصحراء.