مشهد لبناني جديد
منذ ما قبل إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، كان من الواضح أن مشهداً سياسياً جديداً في طريقه إلى التشكل في الداخل اللبناني. مشهد لن يكون حزب الله اللاعب الأساسي فيه بعد اليوم، كما كان عليه الحال قبل الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أي قبل انطلاق "جبهة الإسناد"، والتي تطوّرت إلى عدوان إسرائيلي واسع على لبنان، انتهى باتفاق لا يزال صموده غير مضمون. فمن المؤكد أن ما بعد العدوان لن يكون أبداً كما قبله بالنسبة لحزب الله خصوصاً، والحياة السياسية اللبنانية عموماً، إذ إن مسار الحرب وما رافقها من اغتيالات طاولت أكبر القيادات في الحزب، وفي مقدمتهم أمينه العام السابق، حسن نصر الله، كشفاً عن أن القوة التي كان يستند إليها الحزب لفرض خياراته على السياسة اللبنانية لم تكن بقدر ما كان يوحي به، إضافة إلى أن ما تبقى من قدرات عسكرية باتت خارج المعادلة السياسية بعد الاتفاق الذي تم إبرامه بين لبنان وإسرائيل عبر الوسيط الأميركي.
المتغير الأساسي في "لبنان الجديد" سيكون غياب ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة"، والتي كانت تدرج صيغةً في البيانات الحكومية للالتفاف على فكرة وجود قوة مسلحة في لبنان تفوق قدراتها القوات الرسمية.
النظر إلى الاتفاق الجديد، في حال تطبيقه يؤدي إلى استنتاج مركزي، وهو نهاية "فعل المقاومة" من القاموس السياسي اللبناني، فإبعاد حزب الله من جنوب نهر الليطاني، مع زيادة عديد الجيش اللبناني ومنحه صلاحيات تمنع إعادة تشكيل قوى عسكرية خارج إطار الدولة، وبإشراف لجنة أميركية فرنسية، ذلك يعني أنه لم يعد هناك مبرّر لوجود سلاح حزب الله في شمال نهر الليطاني، إذا كانت الذريعة أن هذا السلاح لمقاومة إسرائيل، وبالتالي إفراغ وجود الحزب من مضمونه، وتحوّله إلى حزب سياسي كسائر الأحزاب الموجودة على الساحة اللبنانية، مع ثقلٍ أقلّ ربما.
فعلياً، هذا المسار بدأ بالتشكل، وهنا المتغير الثاني المرتقب في القاموس السياسي اللبناني، فتعبير "الثنائي الشيعي" المستخدم للدلالة على حزب الله وحركة أمل قد يقتصر على الطرف الثاني، مع عودة رئيس مجلس النواب، رئيس حركة أمل نبيه برّي، للعب الدوري المركزي في الطائفة الشيعية.
وليس سرّاً أن طريقي برّي وحزب الله لم تكونا تتقاطعان في كثير من الأحيان، وأن تنازلات سياسية كثيرة قدّمها الطرفان للحفاظ على تماسك "الثنائي". المؤشر اليوم إلى بدء برّي بالسير في مسار مختلف هو دعوته إلى جلسة برلمانية لانتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من يناير/ كانون الثاني المقبل، ودعوته إليها السفراء الأجانب، أي أنها لن تكون جلسة شكلية، بل حاسمة لانتخاب رئيس، وهو مطلب دولي أساسي، قبل المضي في اتفاق وقف إطلاق النار.
ومن المعلوم أن حزب الله خلال الأعوام الماضية كان يسعى إلى فرض مرشح رئاسي، هو سليمان فرنجية، على سائر الأطراف اللبنانية، وهو ما عرقل الوصول إلى تفاهم طوال تلك المرحلة. أما اليوم، فإن مهلة التفاهم قصيرة نسبياً، وبالتأكيد لن يكون لحزب الله القول الفصل فيه، والاتجاه لن يكون لمرشّحه، بل لآخر متوافق عليه دولياً. وهذا أيضاً من الشروط الدولية المفروضة على لبنان للمساهمة في إعادة الإعمار، وهي مهمّة لن تكون يسيرة في ظل حجم الدمار الهائل الذي خلفه العدوان الإسرائيلي، والذي يفوق بأضعاف ما حصل في عدوان تموز 2006، خصوصاً أن التغييرات السياسية والاقتصادية في العالم عموماً، وفي الدول الخليجية خصوصاً، لا تتيح فتح الخزائن كما حصل قبل 18 عاماً.
على هذا الأساس، قد يحمل مسار اتفاق وقف إطلاق النار والمضي إلى النهاية في تنفيذه سيؤديان إلى مشهد سياسي لبناني جديد، في طياته مخاطر انفجارات داخلية.