مشكلات اعتماد دستور 1950 في سورية مؤقتاً
سوريون يحتفلون بسقوط نظام الأسد في ساحة الأمويين في دمشق (13/12/2024 فرانس برس)
بعد أسابيع من سقوط نظام الأسد في سورية، عاد جدل دستور البلاد إلى الواجهة، وخاصة بعد تصريح قائد المرحلة الانتقالية (الإدارة السورية الجديدة)، أحمد الشرع، أنّ كتابة الدستور الدائم قد تستغرق حوالي الثلاث سنوات. وقد أثار ذلك تساؤلات عن الإطار القانوني الذي ستعتمده سورية والإدارة المؤقتة خلال الفترة الانتقالية التي يُتوقّع أن تكون طويلة نسبياً. وضمن هذا الجدل، يظهر استخدام دستور 1950 أكثر الحلول المتداولة انتشاراً، إذ دعا مثقفون وخبراء إلى اعتماده دستوراً مؤقتاً. وتستند هذه الدعوات إلى أن هذا الدستور كُتب خلال فترة الجمهورية السورية الأولى التي عرفت نظاماً ديمقراطياً نيابياً، فضلاً عن إشراف شخصيات سياسية وقانونية كبيرة على صياغة هذا الدستور (ناظم القدسي، رئيف الملقي، عبد الوهاب حومد، مصطفى السباعي، منير العجلاني وغيرهم..)، إضافةً إلى ذلك، وبسبب النشاط الذي طبع الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد في تلك الفترة، نوقشت في الصحف قضايا كبرى عديدة عادة ما تكون في افتتاحيات الدستور ومواده الأولى وحظيت باهتمام كبير. ولعل أشهر الأمثلة على ذلك كانت المواد المتعلّقة بدين رئيس الجمهورية، والإسلام مصدراً أساسياً للتشريع، وحتى عاصمة البلاد، دمشق.
إلا أن دراسة دقيقة لمواد هذا الدستور والبنود التي ركز على التفصيل فيها، توضّح إشكالات كبيرة تجعل من فكرة تبنّيه حلاً سريعاً ومؤقتاً للبلاد أمراً صعباً في المرحلة المقبلة، وتظهر عجزه عن التعاطي مع الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد اليوم، ربما بالطريقة نفسها التي لم يستطع فيها التعامل مع الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد عند إقراره قبل ثلاثة أرباع قرن. ولفهم هذه المشكلات، لا بدّ لنا من العودة أولاً إلى السياقات السياسية في سورية أواخر عام 1949 بعد مرور أسابيع قليلة على إطاحة نظام الجنرال حسني الزعيم، والذي شهدت البلاد خلال فترة حكمه القصيرة أوّل ديكتاتورية عسكرية فردية.
خريف 1949: مساكنة صعبة بين المدنيين والعسكريين
بدأ العمل على صياغة دستور 1950، في خريف 1949، بعد سقوط نظام حسني الزعيم الذي أطيح بشكل مفاجئ وسريع، مشابه للشكل الذي وصل به هو نفسه إلى السلطة. بعد نهاية هذه الديكتاتورية العسكرية الأولى، سيطر على السوريين شعورٌ بأن الحياة السياسية في البلاد تولد من جديد، ولذلك لا بدّ من دستور جديد وقوانين جديدة، وربما، كيان سياسي جديد وفقاً لمشروع الوحدة مع العراق الذي كان يدفع به بقوة حزب الشعب، الحزب السياسي الأوّل في البلاد تلك الفترة.
يمنع دستور 1950 السلطة التنفيذية من إصدار المراسيم التشريعية، مجرّداً إياهاً بذلك من القدرة على التشريع السريع في فترات الأزمات
وفعلاً استطاعت الحكومة المؤقتة تحقيق عدّة إنجازات تُحسب لها في تلك الفترة القصيرة، لعل أهمها قانون الانتخاب الذي اشتمل على تفعيل حقّ النساء بالتصويت (بدأ الحديث عن هذا الأمر خلال فترة الزعيم، ولكن العمل فعلياً به جرى بعد الانقلاب عليه)، وعلى خفض السن القانوني للمشاركة في الانتخابات لـ 18 سنة، وهو المطلب الذي كانت الأحزاب الجديدة، مثل "البعث"، تصرّ عليه، حتى يُسمح لمناصريها من الشباب بالمشاركة بالتصويت. بعد قانون الانتخاب، أجريت انتخابات لجمعية تأسيسية، ثم جرى اعتماد دستور مؤقّت مختصر، وعينت الحكومة المؤقتة لجنة متخصّصة لصياغة الدستور الدائم وأعطيت هذه اللجنة ثلاثة أشهر للقيام بهذه المهمة، وهي المدة التي لم تستطع اللجنة أن تلتزم بها بسبب انقلاب العقيد أديب الشيشكلي، رئيس الأركان آنذاك (يعرّف هذا الانقلاب في كتب التاريخ السوري باسم انقلاب الشيشكلي الأول). ولذلك تأخّر اعتماد الدستور الجديد حتى بدايات خريف العام التالي 1950. والحال أن هذا الانقلاب لم يكن سوى نقطة انعطاف سرّعت تدهور العلاقة بين السياسيين في الجمعية التأسيسية (قامت مقام البرلمان في البلاد وهيمن عليها حزب الشعب) ورئاسة أركان الجيش التي هيمن عليها الشيشكلي. صحيح أن زعيم الانقلاب الثاني سامي الحناوي رفض تسلّم السلطة، بعد انقلابه على الزعيم ووضعها في كنف السياسي الوطني هاشم الأتاسي، إلا أن قيادة أركان الجيش ورجلها القوي أديب الشيشكلي كان لهم رأي آخر. لم ترض قيادة الأركان أن تعود إلى الثكنات، وأصرّت على تسمية وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة والحكومات التي تلتها، كما أنها عارضت وبشدّة فكرة التقارب مع العراق، وهو المشروع الأثير عند حزب الشعب. بالإضافة إلى ذلك، تطوّر الأمر عند رئاسة الأركان، وبدأت تعمل على "سياستها الخارجية" الخاصة، حتى إن الشيشكلي نفسه كان يزور السعودية ومصر ولبنان لموازنة الثقل الذي يضعه السياسيون خلف الحلف مع العراق. أدّى هذا النفوذ المتزايد للجيش، ورئاسة أركانه، إلى نزاع مستمرٍ بين السياسيين والعسكريين. حاولت خمس حكومات متعاقبة الحفاظ على هذا التوازن القلق، واحتواء الجهاز العسكري الآخذ بالتمرّد، ولكن الفشل كان حاصل ذلك كله، بالإضافة إلى استقالات متكرّرة أرسلها رجال السياسة إلى الرئيس هاشم الأتاسي، الذي عمل جاهداً في تلك الفترة على تدوير الزوايا بين الطرفين، وعلى تأمين هذه المساكنة الصعبة داخل الدولة بين العسكر وأهل السياسة.
1950: نظام برلماني يتّجه نحو النظام المجلسي
شكّلت عملية صياغة الدستور تلك فرصة استثنائية لرجال السياسة في البلاد، ففي تلك الفترة المبكّرة من الصراع مع الجيش، لم يكن الضباط قد تغلغلوا بعد في الحياة السياسية في البلاد. بل كان إصرارهم يقتصر على شرطين أو ثلاثة بشأن أمور تتعلّق بوزارة الدفاع والدرك. وقد كان الأجدر بالطبقة السياسية السورية أن تستغلّ لحظة صياغة الدستور لتزيد من قوة السلطة التنفيذية (رئيسي الجمهورية والوزراء) لتوازن الثقل المتزايد لرئاسة الأركان. ولكن، بدلاً من ذلك، خرج دستور 1950 بسلطات ضعيفة لرئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء لا تساعدهما على الوقوف في وجه الأركان.
وبحسب الباحث كريم الأتاسي، كانت السلطة التنفيذية في دستور 1950 أضعف السلطات التنفيذية على الإطلاق في تاريخ البلاد، الأمر الذي جعل النظام السياسي أشبه بنظام مجلسي Assembly Regime يهيمن فيه البرلمان، أو السلطة التشريعية، على السلطة التنفيذية التي تغدو مقيّدة ولا تملك أوراق ضغط مضادّة على المجلس. ساد هذا النظام في فتراتٍ متقطّعةٍ من تاريخ الجمهوريات الفرنسية وتميّز بعدم الاستقرار، ونشأت الجمهورية الخامسة التي اتسمت بسلطات رئاسية موسّعة على هذه الخلفية.
بموجب الدستور، لا يملك رئيس الجمهورية أن يعترض بشكل حاسم على مشاريع القوانين القادمة من مجلس النواب بل هو "مُلزم بالتوقيع" خلال سبعة أيام
ويشير الباحث كريم الأتاسي إلى عدّة نقاط في دستور 1950 أضعفت من دور السلطة التنفيذية. مثلاً، على عكس الدستور السابق، الذي أُقرّ خلال فترة الانتداب الفرنسي، يمنع دستور 1950 السلطة التنفيذية من إصدار المراسيم التشريعية، مجرّداً إياهاً بذلك من القدرة على التشريع السريع في فترات الأزمات (وهو الأمر الذي قد يكون حاسماً خلال فترة الصراع مع العسكر تلك) وبدلاً من ذلك، اعتبر الدستور أنّ مجلس النواب يبقى في حالة انعقاد دائم، وهو ما يبطل الحاجة للمراسيم التشريعية التي تصدر عادة عن الرئيس أو رئيس الحكومة وتناقش لاحقاً في البرلمان. أيضاً، بموجب الدستور، لا يملك رئيس الجمهورية أن يعترض بشكل حاسم على مشاريع القوانين القادمة من مجلس النواب بل هو "مُلزم بالتوقيع" خلال سبعة أيام. والإجراء الوحيد الذي يبقى بيده في حال اعتراضه على مشروع القانون هو أن يحوّله إلى المحكمة العليا للبتّ في دستوريته، ما عدا ذلك، يصبح القانون نافذاً وصالحاً للنشر. صحيح أنه يمكن للرئيس أن يعيد مشروع القانون إلى مجلس النواب لقراءة وتصويت ثانٍ، ولكن عندئذ يستطيع المجلس أن يقرّ القانون بالأغلبية المطلقة وليس بأغلبية الثلثين كما كان الأمر يتطلّب في الحالات المماثلة في دستور 1928.
حلّ البرلمان "انتحار جماعي"
فضلاً عن ذلك، عادة ما تضع دساتير الأنظمة النيابية امتياز حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكّرة بيد رئيس الجمهورية، بحيث يكون هذا الأمر أشبه بسلاح ردع يدعم موقف الرئيس في حال واجه استعصاء أو جموداً في البرلمان. وقد أعطى دستور 1950 هذا التفويض للرئيس، ولكنه منعه من استخدامه خلال السنتين الأوليين من عهد المجلس، وخلال نصف السنة الأخيرة من ولاية الرئيس. كذلك اعتبر الدستور أنه عند حلّ البرلمان يصبح رئيس الحكومة أيضاً بحكم المستقيل. ولا يمكن للرئيس حينها رفض الاستقالة، بل ويكون مجبراً على أن يعيّن حكومة جديدة مؤقتة يرأسها رئيس البرلمان المنحلّ (قرار آخر بمصلحة البرلمان) ثم تجرى انتخابات نيابية. وبذلك حيّد دستور 1950 السلاح الوحيد المتبقي بيد السلطة التنفيذية، لأن اللجوء لحلّ البرلمان في هذا الحال يعني فيما يعنيه حالة انتحار جماعي للمؤسّسات، وهو ما سيحوّل أزمة حكومية عادية إلى أزمة نظام حكم.
من الواضح أن اللجنة الدستورية التي صاغت دستور الـ 1950 أرادت إضعاف نفوذ السلطة التنفيذية وتحويل مركز ثقل النظام باتجاه المجلس أو السلطة التشريعية
ولذلك يبدو من الواضح أن اللجنة الدستورية التي صاغت دستور الـ 1950 أرادت إضعاف نفوذ السلطة التنفيذية وتحويل مركز ثقل النظام باتجاه المجلس أو السلطة التشريعية. وتبقى أسباب هذا الخيار الدستوري وحيثياته غير واضحة. هل كانت اللجنة الدستورية ما تزال تعاني من الصدمة التي أحدثها انقلاب حسني الزعيم وتلاعبه القانوني والدستوري في الحياة السياسية السورية ورغبت من خلال دستورها الجديد في الحد من صلاحيات السلطة التنفيذية، منعاً لأي نزعة فردية أو ديكتاتورية في الحكم متجاهلة الفرق الأساسي أنّ الزعيم كان بالأساس عسكرياً، وأنه وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري وليس رئيساً عادياً تعسّف أو أفرط باستخدام صلاحيته التنفيذية؟ أم هل توقّف الأمر على حسابات حزبية ضيقة وقصيرة المدى، أم إن المشكلة كانت أعمق بكثير والشكل الذي خرج به الدستور أخيراً يعكس "يأس" الطبقة السياسية من قدرتها الذاتية على تحديث البلاد؟ من هنا جاء إضعاف دور السلطة التنفيذية بشكل مقصود لإفساح المجال للمؤسسة العسكرية وللطبقة الوسطى التي تمثلها أن تنفذ برنامجها على الأرض من دون معوّقات كما يخمن كريم الأتاسي في كتابه.
لا يمكن التحقق من هذه الفرضيات أو الجزم بصحة إحداها، ولكن وثائق المكتبة الرئاسية للرئيس الأسبق والحقوقي ناظم القدسي، وقد نشرت أخيراً، ربما تساعد في فهم ملابسات صياغة الدستور وفي رسم صورة تأريخية جديدة لفترة الجمهورية النيابية السورية الأولى.
دستور 1950 أشبه ببرنامج لتحقيق العدالة الاجتماعية
حافظ دستور 1950 على التقاليد الديموقراطية الليبرالية في الدستور السوري الذي سبقه، فأكّدت مواده حماية الحريات الفردية ودولة القانون وحقوق المعتقلين ومنع التعذيب (المادة العاشرة)، كما كفل الدستور الحريات الدينية وحرية الاعتقاد واشتمل على مواد تحمي خصوصية البريد والمخابرات الهاتفية وتكفلت فيه الدولة بحرية التعبير وحرية الصحافة وأعطي للسوريين حقّ التجمع وتشكيل الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية. وقد كان هذا تطوّراً سياسياً ملحوظاً بالمقارنة مع دستور 1928 الذي لم ينصّ على حريات سياسية بالمستوى نفسه.
ومع ذلك، بقي تركيز الدستور بالأساس على المسألة الاجتماعية وتوزيع الثروة في المجتمع. ويظهر تركيز اللجنة الدستورية على قضايا العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية بشكل جلي مثلاً من الرسالة التي أرفقها مقرّر لجنة الدستور، عبد الوهاب حومد، مع مسوّدة الدستور عند إرساله إلى مجلس النواب، إذ يستفيض حومد بشرح غايات الدستور في تحقيق المساواة على اختلاف أنواعها من قانونية وسياسية واجتماعية، ويفصّل في رؤيته القانونية بشأن مبدأ تكافؤ الفرص وأهمية أن ترعى سياسات الدولة إعادة توزيع الثروة في المجتمع، ويحاول أن يسند هذه البرنامج الاجتماعي السياسي ويؤصلها في الأثر الإسلامي والسنة (يستند مثلاً إلى قرار الرسول الكريم بتوزيع الفيء على المهاجرين دون الأنصار ما عدا فقيريْن منهم).
بينما ركّز دستور 1928 على قضية الاستقلال الوطني عن الانتداب، كان الاهتمام الأساسي لدستور 1950 منصبّاً على إطلاق برنامج يحدّث البلاد ويتصدى لمشكلاتها الاجتماعية الرئيسية
ويبدو الاهتمام بقضية العدالة الاجتماعية جلياً من مواد الدستور وطولها النسبي. فقد كان هذا أوّل دستور يُصاغ بعد الاستقلال. لذلك، وبينما ركّز دستور 1928 على قضية الاستقلال الوطني عن الانتداب، كان الاهتمام الأساسي لدستور 1950 منصبّاً على إطلاق برنامج يحدّث البلاد ويتصدى لمشكلاتها الاجتماعية الرئيسية مثل قضايا الملكية الزراعية وتحديدها وحقوق العمّال والضمان الاجتماعي والتعليم المجاني محاولاً بذلك التأسيس لدولة "رعاية" في سورية. دولة ترعى الطفولة، تبني المستشفيات، وتعمل على رفع ما نسميه اليوم بالتنمية البشرية في البلاد. وقد ذهب هذا الدستور في برامجه الاجتماعية أبعد من ذلك، إذ نصّ على مواد كانت أشبه ببرنامج وزاري تهدف إلى إنشاء القرى النموذجية وبناء مساكن صحية للفلاحين، والقضاء على الأمية في البلاد خلال عشر سنوات (المادّة 160) وحتى إسكان البدو الرحل.
لا مشكلة في هذا البرنامج الاجتماعي الاقتصادي الطموح، ولكن وبحسب سير الأمور خلال الفترة التي اعتُمد فيها الدستور، يبدو أنّ هذا البرنامج كان نقطة ضعف للجمهورية الوليدة بدلاً من أن يكون نقطة لصالحها، لأن حالة الاستعصاء السياسي وعدم قدرة الطبقة السياسية التقليدية في الحكومات المتعاقبة على تحقيق هذه الوعود الاصلاحية، ضربت شرعية هذه الحكومات وفتحت الباب لتدخل عسكري أكبر للجيش إذ أبدى الجيش كفاءة في إدارة البلاد بانضباط ومن دون جدل السياسيين وأكثر قدرة على تمثيل تطلعات الطبقات الوسطى التي سارع شبابها، بسبب يأسهم من الأحزاب التقليدية البرلمانية، إلى الانضمام إلى ما كانت تُسمّى الأحزاب الأيديولوجية (البعث والقومي السوري والشيوعي) متجهاً بذلك إلى تبنّي الأفكار الانقلابية الثورية وإلى رؤية راديكالية لمستقبل الحياة السورية.
ما يصلح اليوم من دستور 1950
عادة ما تنصف محتويات الدساتير إلى ثلاثة أقسام، يعلن الأول هُويّة الدولة وسكانها وثقافتها وانتماءاتها، بينما يختصّ الثاني بسرد حقوق مواطني البلد ويكون أشبه بإعلان أو وثيقة حقوق Bill of Rights. يركّز القسم الثالث على تفصيل السلطات وفصلها، وآليات عمل كلّ منها وتفاعلها مع الأخرى، ويتميّز دستور الـ 1950 بمحتوى رابع، هو البرنامج الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يركّز عليه.
ومن منظورنا اليوم في المرحلة الانتقالية الحالية التي تعيشها سورية، يبدو القسمان الأولان عن أسئلة الهوية والانتماء والحقوق أكثر الأجزاء فائدة للسوريين في هذا الدستور، لأنّ اعتماد بنود الهوية ( ثقافة البلاد وهويتها، دين رئيس الجمهورية ومكانة الشرع الإسلامي، وحماية المعتقدات الدينية والأقليات) وبنود الحقوق (حق التجمّع، مصونية مساكن السوريين، حق تشكيل الأحزاب والتعددية)، يساعدنا على تلافي الاختلاف حول هذه البنود الحساسة خلال الفترة الانتقالية، ويساعدنا بالتالي على تلافي الوقوع في مطبات وقعت بها دول أخرى بعد ثورات الربيع العربي، عندما اختلفت الطبقة السياسية حول هذه النقاط، وهو الأمر الذي ساهم بتعثّر فتراتها الانتقالية.
القسم المتعلّق بتنظيم العلاقة بين السلطات وتوزيعها في دستور 1950 لا يصلح أبداً نقطة انطلاق للمشهد السياسي الحالي
صحيح أنّ آخر دساتير الأسد الصادر عام 2012 يحتوي أيضاً على بنود حقوقية لا بأس بها تسمح أيضاً بحقّ التجمع والتحزّب السياسي، ولكن اعتماد هذه البنود من دستور 1950 يضفي عليها مشروعية أكبر، وخاصة أنه هذه البنود نوقشت في الصحافة وفي المؤسسات الديمقراطية آنذاك، وأنّ أعضاء اللجنة الدستورية الذين صاغوها كانوا من كبار رجالات الحقوق السوريين في تلك الفترة التي لمعت فيها المحاماة السورية دراسة وممارسة.
أما القسم المتعلّق بتنظيم العلاقة بين السلطات وتوزيعها في دستور 1950، فهو لا يصلح أبداً نقطة انطلاق للمشهد السياسي الحالي. لعدّة أسباب، أهمها الضعف الكبير المفروض في هذا الدستور على السلطة التنفيذية، والاعتماد شبه الكلي على برلمان منتخب وأحزاب سياسية ناشطة، وهو الأمر المفقود كلياً في سورية اليوم. والأهم، هو بعد هذا النوع من الممارسة النيابية عن ذاكرة السوريين، الأمر الذي سيؤدي إلى مشكلات قانونية، وإلى فجوات كبيرة بين النصّ الدستوري والتطبيق السياسي العملي، وهي مشكلة خطيرة جداً في هذه المرحلة التي يحاول السوريون أن يعيدوا بناء دولة القانون نصاً وممارسة من الصفر تقريباً.
لذلك، رغم العيوب الكثيرة التي يعاني منها دستور 2012، إلا أن الأنسب قد يكون أن تُستوحي بعض مواده حول تنظيم عمل السلطة التنفيذية بشكل مؤقت، ويمكن أن يترافق ذلك مع إضافة مواد تصحيحية تعطّل الأحادية المفرطة في هذا الدستور.
الميثاق الانتقالي أهم من الدستور المؤقت
ختاماً، في المراحل الانتقالية المشابهة التي عاشتها دول أخرى، كان التفاهم حول ميثاق انتقالي وإصداره أهم من الدستور المؤقت. يفصّل هذا الميثاق برنامج العمل في المرحلة الانتقالية، ويحدّد أهدافها وآلياتها وتسلسل مراحلها من قانون انتخابات، إلى لجنة دستور دائم، إلى جمعية تأسيسية، ثم انتخابات، ويتناول أيضاً مسائل العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان ومصير المفقودين والعدالة الانتقالية (مثلاً أدرج الميثاق الدستوري الانتقالي في البرازيل بنوداً خاصة لإنشاء محكمة دولية تبحث في انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد خلال فترة الديكتاتورية العسكرية)، ولصياغة هذا الميثاق لا بُدّ من إطلاق عملية مشاورات ومباحثات سياسية تنتج هذه الوثيقة وتقرنها بخطة زمنية تجدول خطواتها على مراحل وهو الأمر الذي يمنح وثيقة مرجعية للعملية الانتقالية، ويزيد الثقة بين الأطراف المختلفة، خاصة بعد أن يتم إنجاز كلّ مرحلة من المراحل بنجاح.
المصادر :
1) Karim Atassi, Syrie, la force d'une idée: Architectures constitutionnelles des régimes politiques, 2014, Edition Harmattan
2) جوردون هـ. توري، السياسة السورية والعسكريون، دار الجماهير، 1969
3) أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت، دار رياض الريس، 2000.
4) تقديم مسودة الدستور الجديد إلى الجمعية التأسيسية - 15 نيسان 1950 ملحق محضر اجتماع الجمعية التأسيسية، كلمة مقرر اللجنة الدكتور عبد الوهاب حومد. موقع الأرشيف الرئاسي للرئيس ناظم القدسي.
5) M. Khadduri, Constitutional development in Syria: With emphasis on the constitution of 1950, 1951, Middle east Journal
6) T Ginsburg, E Alston Playing for constitutional time: Interim constitutions and transitional provisions. The Timing of Lawmaking, 2017