مشاعر مسبقة الصنع

مشاعر مسبقة الصنع

09 مايو 2021

(Getty)

+ الخط -

لا يمتلك زميلي المحرّر الصحافي ترف الوقت، فهو مضطرٌ إلى مغادرة الصحيفة باكراً؛ لأنّه وعد زوجته وأطفاله بأن يشاركهم وجبة العشاء، غير أنّ تزامن العشاء مع موعد مباراةٍ مهمةٍ بين فريق بلده وفريق أجنبيّ هذا اليوم كان مدعاةً لاضطرابه، وهو مضطرٌّ، بحكم عمله مسؤولاً عن القسم الرياضي، أن يكتب تحليلاً عن المباراة التي ينتظر نتيجتها الجميع بشوق عارم، فالنصر سيترتب عنه كثير من الغبطة والهيجان الفائق، والخسارة لن تقلّ فداحتها عن خسارة حرب مصيرية بالنسبة إلى الجماهير المتحلقة حول أجهزة التلفزيون... والأمر ليس صعباً لو كان زميلي سيشاهد المباراة، لكنّه لن يفعل للسبب السابق.

ابتكر زميلي حلاً بارعاً للخروج من مأزقه ما زال يستوقفني، على الرغم من مرور سنوات عديدة عليه، فقد وجدتُه يُخرج من جيب قميصه رزمتي أوراق، ويسلّمها لمخرج الصفحات، الأولى تحمل تحليلاً في حالة الفوز، مزدانةً بعنوان "حربيّ" بارز يحتفي بالنصر المجلجل، وبسطورٍ ملتهبة كأنّها حقل ألغام، فرطَ ما حفلت به من إثارة وثناء على "الجنود" والمدرّب الذين قادوا المعركة، وأبادوا "العدو" عن بكرة أبيه. ويحمل التحليل الآخر مشاعر الهزيمة بكلّ أبجدياتها الكئيبة، مع تحميل الجنود والمدرّب أنفسهم مسؤولية الهزيمة النكراء، ونكسة الجماهير بفريقها وطريقة لعبه. ثم غادر زميلي الجريدة مسرعاً، بعدما أدّى عمل يومه بنجاحٍ يُحسد عليه.

آنذاك، تساءلت طويلاً: كيف يمكن المرء أن يقدّم مشاعر مسبقة لوقائع لم تحدُث بعد؟ بل الأنكى أن يكون على استعداد لتقديم طرازين متعاكسين من المشاعر لحدثٍ واحد، كأن يكون "ضدّ" و"مع" شرط أن تظهر النتيجة أولاً، وعندها يُبرز طرازاً ويخبئ آخر.

أغلب الظن أنّ تصرّف زميلي مفهوم ضمن الواقع الصحافي المضلّل في مجتمعاتنا العربية، الذي غدت فيه المشاعر مؤجّرة كالأقلام نفسها، ولم يعد أسهل على عيون الصحافي في بلادنا من سفح الدمع أو قدْح الشرر، بحسب الإيعاز الذي يتلقاه من رئيس تحريره، المرتبط هو الآخر بأوامر عليا تحملها إليه مكالمة هاتفية من "الذئب"، وفق ما كنا نسمّي الرجل الغامض الذي يتصل برئيس التحرير للتوجيه أو التقريع.

قليل منّا من نجا بمشاعره من هذا التضليل، وتمنّيت لو أن ضحايا "الذئاب" العربية اقتصر أمرهم على الوسط الصحافي وحسب، غير أنّ "المباراة" غير المتكافئة بينهم وبين شعوبهم أوجدت شرائح مجتمعية عريضة، باتت تحمل في جيبها هاتين الرزمتين المتناقضتين من المشاعر "مسبقة الصنع"، لإظهارهما وفق نتيجة المباراة طبعاً، ووفق التضاريس والألوان التي تقتضي منهم تبديل جلودهم وموافقهم بحسبها.

هذا ما أظهرته حادثة الأمير حمزة في الأردن، مثلاً، التي أراهن أنّ جمهوراً عريضاً كان يحمل رزمتي المشاعر إياها، منتظراً ما سيسفر عنه النزاع في القصر الملكي، وهو ما بدا أيضاً إبّان انقلاب عبد الفتاح السيسي المشؤوم، حين كانت جوقاتٌ عديدةٌ تضمر طرازي المشاعر بانتظار نجاح الانقلاب من عدمه.

نجحت الأنظمة العربية، فعليّاً، في إعادة تصنيع الشعور الجمعي على نحو متوازٍ قابل لحمل الشيء ونقيضه معاً، وراحت تطرب لرزمة هتافاتها عندما تدعو الحاجة إلى استعراض شعبويّ ما ضدّ المعارضة، أو لتكريس سلطتها واستبدادها. وفي المقابل، تستدرج رزمة الدموع والتعاطف عندما تجد نفسها في موقفٍ حرجٍ يحتاج مثل هذا التباكي. وفي المحصلة، غدونا أمام إنسان عربي قادر على تعليب مشاعر مسبقة لا تحتاج منه أزيد من التجوّل في متجره الداخليّ وانتقاء العلبة الملائمة للحدث، من دون أن تمسّ تلك المشاعر جذرها الفطريّ في شبكة أعصابه التي ضربها العطب.

ندرك أنّ أنظمة الاستبداد لم تفلح إلّا في إنتاج شخصية عربية هلامية، سائلة، متكيّفة مع الكبت والقمع. لكن، لا أدري إذا ما كان يصح في علم النفس أن نضيف إلى تلك الأمراض وباءً لم يتنبّه له الباحثون، وأعني به الشخصيات التي تسبق ردّة فعلها الفعل نفسه، على خلاف ما قال به نيوتن وسواه... شخصيات غادرت مقاعد المتفرّجين باكراً، قبل أن تعرف نتائج المباريات حتى، لكنّها سكبت من الدموع والتطبيل ما يفوق بكثير ما تقتضيه النتيجة نفسها.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.