مسرح عبث أم واقع سوري؟
(سبهان آدم)
لم أستطع رؤيته أكثر من مسرحية هزلية ذلك المهرجان الدعوي الذي أقامته مجموعة من المقاتلين الجهاديين في مدينة جبلة الساحلية التي يغلب على سكّان ريفها المذهب العلوي، والتي يوجد فيها آلاف من العلويين يومياً بحكم أنها المدينة الحاضنة لكل الريف المحيط بها: مجموعة من المقاتلين الجهاديين لا يوجد بينهم سوري واحد، يرتدون اللباس الأفغاني (لا أعلم إن كان السلف الصالح يرتدي هذا النوع من اللباس)، ويحملون أسلحة رشاشة، تحيط بهم حلقة من سكّان المنطقة، بينهم أطفالٌ كثيرون، يخطب بهم مقاتل ليبي جهادي يشتم العلويين ويصفهم بالكفرة والزناديق، من دون أن يدرك أن المحيطين به، في غالبيتهم، من هؤلاء المشتومين. ثم يحاول أن يعثر على طفل أو طفلة حافظين آية من آيات القران الكريم ولا يجد، ويستغرب لماذا لا يصيح هذا الجمع بالتكبير والتشهد على عادة المؤمنين الذين يفترض أنهم باتوا أحراراً بسقوط النظام "النصيري الكافر" الذي كان يمنعهم من إقامة دولة الخلافة الإسلامية.
هل من فانتازيا أكثر من هذا المشهد الغرائبي الذي تكرّر ما يشبهه في عدة أمكنة من سورية؟ كأن تعبر سيارة بمكبر صوت في وسط حي الأرمن في حلب تدعو النساء إلى ارتداء اللباس الشرعي، أو تتوجّه مجموعة من الجهاديين الملثّمين المسلحين إلى حي القصاع الشهير ذي الغالبية المسيحية في دمشق يلصقون ملصقاتٍ حائطيةٍ تدعو إلى تحريم الاختلاط والسجائر والكحول والغناء والفن، وتحثّ النساء على ارتداء اللباس الشرعي، قبل أن يقبض عليهم رجال الحي ويزيلوا أقنعتهم ويسلموهم للأمن العام.
هذه ظواهر سوف تحدُث كثيرا في سورية. وشخصيا، (أنا علمانية تنتمي لأقليةٍ من الأقليات السورية)، لا تخيفني ولا تسبّب لي الرعب، بل أراها من منظور كوميدي، أو لنقل من منظور العبثية التي يمكن أن نصف فيها المرحلة السورية الحالية بامتياز. وأعتقد أن الوجدان السوري والذاكرة السورية الجمعية سوف يلفظان هذه الظواهر سريعاً لصالح الاعتدال الديني الذي تميز به المجتمع السوري خلال تاريخه. الاعتدال بوصفه النمط الإيماني المناسب لبلدٍ مثل سورية، مدنه الكبرى تجارية وريفه زراعي، والتجارة والزراعة مهنتان لا يتناسب معهما التطرّف الديني. ذلك أن التجارة تحتاج مجتمعاً منفتحاً قادراً على استيعاب حركة سياحة داخلية وخارجية (تشغل السوق) كما يقال بالعامية السورية. وتحتاج الزراعة إلى وجود النساء جنبا إلى جنب مع الرجال في الأرض، فالتربة التي تنتج هذا التنوّع في خيراتها تحتاج أيادي متنوعة تشبهها. وهذا أمر يدركه المزارعون جيداً. لذلك من النادر جدّا أن نرى مجتمعا زراعيا في مكان يتّبع سكانه نمطا متشدّدا في حياتهم اليومية، هذا منطقٌ مضادٌّ للطبيعة ذاتها.
تكشفت سورية بعد فرار الأسد وانهيار دولته عن مستنقع آسن ممتلئ بالعفونة والروائح الكريهة، إجرام وطائفية وفساد ووصولية وانتهازية وكبت ديني وكبت مجتمعي وقمع غير مسبوق، كل هذه الخلطة الفاسدة إذا أضيفت إلى الفقر وانعدام أساسيات الحياة وانتشار السلاح وتجريف المجتمع وانتشار آفة المخدّرات والإدمان، ثم نضعها كلها في دائرة الفوضى وفقدان الأمن وقلة خبرة حكام الأمر الواقع وعدم وجود كوادر مدربة لحماية الآمن تكفي لبلد بحجم سورية، سوف نحصل على وصفة من العبثية والكوميديا السوداء غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
هذا المشهد العام كفيل بأن يزيد الخائفين خوفاً والقلقين قلقاً، خصوصاً مع العبثية السياسية، هيئة عسكرية موضوعة مع قائدها تحت بند الإرهاب في مجتمع دولي سهّل لهذه الهيئة الوصول إلى الحكم في بلد موضوع كله تحت قائمة العقوبات الدولية، وتتقاطر الوفود الدولية إلى العاصمة للالتقاء بقادة هذه الهيئة (الإرهابية)، التي تحاول التخلص من ثيابها القديمة، وارتداء لباس حداثي ليبرالي بخطاب جديد متخفّف جداً من حمولة إيديولوجية راديكالية متطرفة، لكنه ما زال متردّداً في إعلان مظهره الجديد الذي سوف بدأ يتسبب بصدمة واضحة لمناصريه من باقي الفصائل الراديكالية، وفي الوقت نفسه، يعيّن مسؤولين لديهم تاريخ حافل بالقتل الجندري أو خطاب الكراهية الموجه ضد الطوائف والأديان التي تشكل جزءاً رئيساً من المجتمع السوري.