مسرحية "أم" لوجدي معوّض

مسرحية "أم" لوجدي معوّض

07 ديسمبر 2021

أوديت مخلوف في مشهد من مسرحية وجدي معوض "أم"

+ الخط -

تشكّل كلُّ مسرحية يكتبها ويخرجها لبنانيُّ المنشأ، كنديُّ الجنسية، وفرنسيّ الإقامة، وجدي معوّض، حدثا إبداعيا وثقافيا تغطّيه أهمّ وسائل الإعلام، ويتزاحم الجمهور على حضوره في صالات تُقفل فيها الحجوزات مسبقا على مدى أسابيع. ففي عرضه الجديد (مستمرّ إلى نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي) الذي يحمل عنوان "أم"، ويشكّل جزءا من "سلسلة بيتية" بدأت بمسرحيتي "وحيدين" و"أخوات"، وسوف تكتمل لاحقا مع عملين قادمين، "أب" و"إخوة"، لم تختلف الحال عن سابقاتها، على الرغم من صياغة القسم الأكبر من الحوارات باللبنانية الدارجة (مع ترجمة مكتوبة) وأداء ممثلتين لبنانيتين (عايدة صبرا وأوديت مخلوف) الأدوار الرئيسة، وتمحور المسرحية كلها حول قصة عائلة لبنانية من الطبقة المتوسطة، تلجأ إلى باريس خلال سنوات الحرب بانتظار العودة إلى بيروت حيث بقي الزوجُ ليعيل عائلته.
وقد يكون هذا العمل هو الأكثر "لبنانية" من بين أعمال معوّض التي لا تغيب عنها أصولُه لبنانيا عرف الحرب وهاجر بسببها. فنحن هنا نستعيد معه ما التصق في ذاكرة وجدي ابن العشر سنوات، من الأعوام الخمس التي أمضتها عائلتُه في باريس تحديدا، وبالتحديد من ملامح جاكلين، تلك الأمّ مشدودة الأعصاب، القلقة، الصارخة والمتوترة حدّ الهستيريا، الخائفة أن تبتلع أولادَها ثقافةٌ أخرى، أن تقتل الحربُ زوجَها، وألا تسمع عن أفراد عائلتها المبعثرة هنا وهناك. أمّ وجدي معوّض "الممسرَحة"، تقضي نهاراتها وهي تشتم من أوصلها إلى هذه الجحيم، تستمع إلى أخبار لبنان في التلفزيون و.. تطبخ! منذ بداية المسرحية إلى نهايتها، تمتلئ الصالة بصراخها وسبابها وبروائح البصل والتبولة والباذنجان المشوي والكبّة والمعمول، وهي الأطباق التي ستملأ المائدة الاحتفالية في نهاية المسرحية، إثر سفر العائلة إلى كندا، بعد رفض السلطات الفرنسية تجديد إقامتها.
فوق هذه المأساة العائلية، تُخاط مأساة البلاد على الشاشة الخلفية، بحروبها الأهلية العديدة والمديدة، والاحتلالات التي عرفتها، الانفجارات والخطف والقتل على الهوية والقنص، ثم الاجتياح الإسرائيلي ومجزرة صبرا وشاتيلا، و... هذا كله متّصل بذاكرة الذي يكتب اليوم ما تبقّى من سنواته الباريسية، من دون أن يُغفل الكلامَ عن حربٍ لا تموت مهما حاول قتلها، لأنها لا تني تُبعث من جديد، وصولا إلى انفجار مرفأ بيروت الذي قضى على ما تبقى من جسد المدينة المصاب.
وإذ نقول إنها المسرحية الأكثر "لبنانية" من بين أعمال معوّض لا نفعل تقييمًا، وإنما ملاحظةً لما قد يتبدّى علاقةً ملتبسة بذكرى والدةٍ قتلها السرطانُ وهي في الخامسة والخمسين من عمرها، وسمح المسرحُ لابنها بإعادة إحيائها وتشكيلها من واقعٍ وخيال، ثم استحضارها لاحقا، أي بعد عقودٍ من رحيلها لمساءلتها عما أشعرت ولدَها به من مهانةٍ وتبخيس بسبب صراخها الدائم عليه وانتقاداتها اللاذعة. ومع ذلك، يقول وجدي معوّض إن المنفى والهجرة وقسوتها، هي والحب الذي افتقده لديها، هي ما جعلته يصير الرجل المبدع الذي صاره وقد بلغ الثانية والخمسين. أيضا، قد تشير "اللبنانية" إلى أن هذا العمل بالذات لا يُبرز كلَّ ما راكمه صاحبُ الموهبة المسرحية الاستثنائية من معارف وخبراتٍ وتميّزٍ وتمايزٍ جعلت من كل عمل من أعماله حدثا فنّيا بامتياز، بقدر ما يزيح عنه هذا كله، ليبدو وكأنه قادمٌ لتوّه من لبنان، لعرض مسرحيةٍ فُكّرت وكُتبت وأُنتجت بأكملها هناك.
هكذا، تبدو "أم" وجدي معوّض، بإخراجها المحكم البسيط وديكورها المتواضع القليل، وخلوّها من أي بدعة بصرية أو درامية، وبأداء الرائعة عايدة صبرا التي تأسر المشاهد خلال ساعتين وعشر دقائق بحضورها الاستثنائي، وبالأداء الجيد للأخت أوديت معلوف وتيو عقيقي الذي يؤدّي دور وجدي الصبي، وأيضا بحضور الصحافية كريستين أوكرينت التي تلعب دورها مذيعة أخبار تخرج من الشاشة، لتصبح عضوا من أعضاء العائلة التي تنتظرها كل مساء، لوحةً حيّةً لما عرفه اللبنانيون وما زالوا يعرفونه من تجارب مريرةٍ وبرد منافٍ يُدفعون إلى الهجرة إليها، بسبب قسوة البلاد وفساد الحياة فيها، لا بل بسبب خلوّها من الحياة.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"