مسدّس الثقافة

مسدّس الثقافة

03 ابريل 2022

(محمد شبعة)

+ الخط -

كلما ذُكر مصطلح "حارس الثقافة" قفز إلى البال رجلان: وزير الثقافة العراقي في عهد صدّام حسين، بملامحه الغليظة، وبزّته العسكرية، وكرشه المندلق، ومسدسه طويل السبطانة المنحدر على فخذه السمينة. وصاحب كشك الثقافة العربية في وسط عمّان الذي رحل قبل أيام، بلقبه الشهير الذي عُرف به (حسن أبو علي) عقوداً. كل منهما ينطبق عليه نعت "حارس الثقافة"، مع اختلاف "طفيف"؛ أن الوزير المدجّج بالمسدس يمكن أن يُخلع عليه اللقب رسميّاً، أما الثاني فلا يمكن أن يطارده الوصف إلّا شعبيًّاً وحسب.

والحال أنّني كثيراً ما تساءلت عن السبب الذي يدفع وزيراً للثقافة إلى التمنطُق بمسدّس، سيّما عندما كنت أراه في مهرجانات المربد الشعرية في بغداد، متابعاً الأمسيات بالفوتيك والبسطار، ومسدّسه يلمع على خصره، وكأنه يتأهب لخوض معركةٍ عسكرية، وتساءلت هل يمكن أن يستلّ الوزير مسدّسه ذات يوم ويطلق النار على شاعرٍ خلف المنصّة مثلاً؛ لأنّه قرأ قصيدة لم تحظ بإعجابه، أو لأنها تخالف خطّ "المدائح" السائد آنذاك بـ"القائد الملهم"، و"هبة الله للشعب"؟ غير أنّ أحد الشعراء العراقيّين الساخرين أقنعني، عندما سألته عن السبب، بأنّ الوزير، وبحكم منصبه، لا بدّ أن يكون "حارساً للثقافة"، بما يشتمل عليه مفهوم "الحراسة" من حمل السلاح، وارتداء "الفوتيك" والبقاء على أهبة الاستعداد دائماً.

أقنعني الصديق؛ لأنّني كنت أعرف أيَّ نوع من "الثقافة" تتبنّاها الأنظمة الاستبدادية، وأيّ نوع من "الحرّاس" و"الحماة" الذين ينبغي تعيينهم لهذه المهمة؛ لأنهم لا يختلفون في الواقع عن "الحرس الشخصي" للزعيم، المطلوب منهم حماية حياته. أما وزراء ثقافته فمطلوب منهم الدفاع عن "ثقافته"، ووزراء اقتصاده عن "اقتصاده" و"ثرواته". ويشترك الجميع في حمل المسدسات والرشاشات والقنابل، إن لم يكن للاستخدام المباشر فللردع والإرهاب، وكلٌّ حسب الفئة المندوب إليها، تماماً كأفرع المخابرات، ومن ثمّ مهمة وزير الثقافة إرهاب المثقفين، واستلاب مواهبهم الإبداعية لصالح الزعيم ونظام حكمه، وإلّا فإنّ مصيره رصاصة مسدّس إن كان الوزير رحيماً، بالطبع، أو الموت البطيء في المعتقلات والسجون والملاحقات الأمنية التي تتجاوز عمره بكثير.

منذ ذلك الوقت، لم يستهوني، كثيراً، مصطلح "حارس الثقافة"، بفضل هذا الوزير المسلّح. لكن لا أدري لماذا أعدت النظر في هذا اليقين، عندما وُصف به الراحل حسن أبو علي؛ حصراً. ربما لأنّه حرس الثقافة النقيضة، المغايرة لثقافات الأنظمة باستبدادها وتفرّدها.

رحل أبو علي قبل أيام، وكثيراً ما كنت أراه قابعاً في كشكه العتيق في أحد أقدم شوارع عمّان، فأتخيّله في كشك "حراسة" فعليّة على مدخل ذاكرة العاصمة ذاتها، غير بعيدٍ عن سبيل الحوريات، الذي شرب منه الأسلاف قبل مائة عام، ولا عن "المحطّة" التي كان يستريح فيها القطار المسافر بين الحجاز وإسطنبول، فيتخلّف منه مسافرون كثرٌ؛ يُؤثرون استيطان هذه القرية الصغيرة الوادعة التي كانت تُدعى عمّان، قبل أن تتضخّم وتصبح عاصمة.

كان الرجل يشعر بالتزام أخلاقيّ تجاه هذه المدينة، على الرغم من أنه يعرف جيدًا أنها تتسرّب من بين يديه إلى أحياء أوسع وأغنى يقطنها أناسٌ "بلا ذاكرة". كان يريد بأيّ ثمن أن يظلّ قلب المدينة خافقاً، فيمارس ما في وسعه من عمليات الإنعاش الاصطناعي، والضرب على الصدر؛ لإعادة الأنفاس إلى مدينةٍ تختنق بالتحوّلات غير المفهومة أحياناً. رفض أن يغادر زاويته الصغيرة تلك، على الرغم من العرض السخيّ الذي قُدّم إليه بتوفير مكانٍ أرحب، وبناءٍ أمتن.

لم يعرف من قدّموا له العرض أنّ أبا علي كان يحرس الجذور، بعدما تكسّرت الأغصان، وأنّه كان مدافعاً حقيقيّاً عن ثقافة المكان والزمان، على الرغم من إدراكه العميق أنّ معركته خاسرة؛ لأنّه ببساطة لم يكن يحمل مسدّساً.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.