مدينتنا العربية الآفلة

08 يونيو 2025

(لؤي كيالي)

+ الخط -

ليس المكانَ مجرّد جغرافيا، إنما تاريخ متحرّك أيضاً، هو الزمن نفسه في حالة حركة. المكان، بالنسبة للمراقب المرهف، هو طريقة الناس في التحدّث وفي السلوك، والتعامل مع ما يمرّ بهم من أحداث. المكان، والحال كذلك، يُمثّل الأحلامَ والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم التي تحققت، وتلك التي خابت، وتركت من العلامات والندوب والجروح. المكان هو التفاصيل ووجوه الرجال والنساء، الحاضرين منهم، والذين مضوا تاركين في القلب والذاكرة بعض الملامح.

لنأخذ مدننا العربية مثالاً، حيث شهدت، وتشهد، تغييراتٍ ديموغرافية وثقافية وعُمرانية سريعة وعاصفة تزيح الصورة التي كانت عليها حتى قبل عقود قليلة. يكفي أن نستذكر أو نعيد قراءة المنتج الإبداعي العربي عن صورة المدينة العربية في مطالع القرن العشرين: صور القاهرة والإسكندرية في الثلاثينيات، ودمشق وبغداد في الأربعينيات والخمسينيات، وبيروت في عزّ تألقها في الستينيات يوم كانت هذه المدن مصهراً للأفكار والتطلّعات الجديدة، المحمولة على قوى اجتماعية حقيقية صاعدة تغطي اهتماماتها ساحات واسعة من الاقتصاد والتعليم والثقافة والفن، ونقارنها بما آلت إليه هذه المدن اليوم بعد كلّ ما مرّ بها من تحوّلات.

قرأتُ، قبل سنوات، ما يشبه المرثيةً كتبها كاتبٌ مغربيٌّ لمدينته التي يُحبّها، طنجة، المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، التي تربى فيها وكتب نصوصهُ مستوحاة من ذاكرتها ومن أماكنها، من بحرها وأحيائها ومقاهيها وشوارعها و"زنقاتها". يتوجع الكاتب، الزبير بن بوشتى، وهذا اسم الكاتب، لفقدان مدينةٍ كان يعرفها إلى مدينةٍ اخرى تُغْتصب ذاكرة أمسها الجميل ومعالمها ومواقعها التاريخية وعذرية غاباتها، وتكتسح جرافات الهدم المتطورة فضاءاتها الجميلة، فلم تعد تنتمي لأطفالها بعد أن بخلت عليهم بفضاءات خضراء وبحدائق للتنزه، فضاءات كانت ذات يوم بساتين غنّاء قبل أن تتحول إلى مزارع تستبيحها العمارات الشاهقة بوقاحة معمارية فظّة.

مثل هذه المرثية يمكن أن نقرأها عن بيروت وعن دمشق وعن القاهرة والإسكندرية، وعن بغداد والبصرة، وعن مدننا القديمة في الخليج وغيرها من مدننا العربية في المشرق والمغرب، التي تخلي مكانها لمدينة جديدة لا تشبهها، لا في الروح ولا في المعمار ولا في التواؤم مع البيئة، مدينة بلا معالم تحمل هُويّتها الخاصة، والبصمات العبقرية للمعماري القديم، وتتخلى طوعاً عنها، فتولد فيها أجيال بلا ذاكرة، لأنّ المدينة الجديدة قامت على أنقاض مدينة فقدناها، توارت هي وتوارت معها ذاكرتها، أو كادت.

في وسع زائر أيّ عاصمة أو مدينة أوروبية أن يتناول فنجاناً من القهوة في مطعم أو مقهى يعود إلى القرن التاسع عشر، وأن يتعرف على زاوية، في ذاك المطعم أو المقهى، إعتاد الجلوس فيها روائي شهير عاش قبل قرن أو أكثر، أو ارتادها فنان أو شاعر، ولكن هل في وسعنا أن نجد في مدننا العربية مقهى كهذا، وإذا ما وجدنا مقهىً قديماً نسبياً عمره بضعة عقود، سنكتشف أنّه فقد الروح التي كانت له، والطقس الذي ميّزه.

كانت المدن نفسها أكثر نظافة وأناقة وتنسيقاً وذوقاً في شكل بنائها وفي تصميم شوارعها، قبل أن يجتاحها النمط القبيح من أشكال العمارة، حيث البنايات المتفاوتة الارتفاع والمتنافرة الألوان، والمتراصة بدون فسح للضوء، حتى البيئة في مدننا كانت أكثر عذرية، قبل أن يداهمها هذا التلوث المهول من سحب الغازات وعوادم السيارات والناقلات.

المدينة التي كانت تحيط بمركز تجاري وسياسي حيّ وديناميكي يشعّ بالحياة وبالنشاط الثقافي والفني أضحت أشبه بالقرية الكبيرة التي تتمدّد أفقياً دونما حدود، وتتغذّى بالهجرة الواسعة إليها من الأطراف فيما تخفق هذه المدينة في تقديم الخدمات الضرورية التي يفرضها هذا التوسّع، لأنّه توسّع عشوائي غير مخطّط له، وباتت تدفع إلى قاعها بمزيد من الفئات المهمّشة والمخلوعة التي لا تندرج في سياق اجتماعي محدّد، وتهيئ بالتالي الأرضية النموذجية لحالات الاستلاب والاغتراب.

قليلة بل ونادرة الكتابات العربية التي تؤرّخ للمدن العربية، ليس بمعنى سرد الأحداث التي عرفتها هذه المدن، فتلك مهمّة المؤرّخين، وإنما نعني الكتابات الحميمة الأشبه بالسيرة الذاتية للأشخاص، فتكتب سيرة المدن من حيث هي أمكنة وأزقةٍ ومقاهٍ ووجوه وذكريات أليفة. وواضحٌ أن مثل هذه "السيرة الذاتية" أو "الغيريّة" للمدن لا يمكن أن تُكتب إلا من خلال رموز هذه المدن، أعيانها وشخصياتها الثقافية والاجتماعية الذين شدّتهم علاقة بالأمكنة التي تغرب للأسف الشديد.

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.