مخيّم اليرموك المحطّم
دمار في مخيّم اليرموك قرب دمشق (1/2/2025 الأناضول)
تردّدتُ كثيراً قبل الذهاب في رحلة درب الآلام إلى مخيّمي، مخيّم اليرموك، فأنا أعرف أن مواجهة المكان المُدمر الذي قضيت عمري فيه قبل مغادرة البلد في 2012 سيكون وقعها مؤذياً، لكنها زيارة ضرورية إلى المكان الذي تكوّنت فيه. كنتُ أعرف أن المكان مدمّر، لكن واقع الدمار الهائل للمخيم يتفوّق على كل خيال، ولا أجد تفسيراً للقصف الوحشي للنظام المنهار ومن بعده الطيران الروسي للمخيم، سوى أنه استخدم من الطاغية السوري مثل غيره من المناطق لقتل السوريين وترويعهم، وتحديده من الطاغية الروسي مكاناً لتجريب أسلحته المدمِّرة، كما استخدمت في عديدٍ من المدن السورية المنكوبة. وحشية حاقدة تنصبّ على رؤوس المساكين المحاصرين في المخيم، بذريعة وجود مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيه.
لم يرغب حكّام دمشق في خمسينيات القرن المنصرم في رؤية اللاجئين الفلسطينيين في شوارع دمشق، فقرّرت الحكومة السورية منح قطعة أرض نائية في قلب الغوطة جنوب دمشق للهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين، والذهاب بهم إليها، وسيصبح هذا المكان النائي في نهاية الخمسينيات مخيّم اليرموك الذي كان يفتقد إلى كل الخدمات الأساسية، لا مياه شرب نظيفة، لا طرق معبّدة، لا شبكة صرف صحيّ، لا شبكة كهرباء لها معنى. حفر اللاجئون آبار الماء في الجهات البعيدة عن الأماكن التي حفروا فيها حفر المياه العادمة، حتى لا تلوّث الأولى.
في مكانٍ لا يصلح للعيش، بنى الفلسطينيون المبعدون إلى خارج المدينة مخيمهم، لكن الحظ أسعفهم في أنّ مخيمهم البعيد أصبح مع توسّع المدينة وتضخمها في قلبها، ما جعله ملاذاً لمفقري المدينة الغرباء في وطنهم، وعندما لجأوا إلى المخيم لم يحاولوا تغيير سماته الفلسطينية، بل اندمجوا في هذه الفلسطينية، وأصبحوا فلسطينيين مستعارين، غرباء في وطنهم يبنون مع غرباء من خارج وطنهم مكاناً للعيش المشترك، توافقوا على أن يكون مخيماً للاجئين حتى مع عدم اعتراف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) به مخيم لاجئين للفلسطينيين. حوالي مائة ألف فلسطيني مقيمون بين حوالي 600 ألف سوري حافظوا على فلسطينية المكان، ليس بالضد من إرادة الأكثرية السورية المقيمة في المكان، بل باندماج هذه الأغلبية السورية في فلسطينية المكان. واستطاع هذا الوطن الصغير للمندمجين فيه أن ينتزع مكانة مركزية في المدينة، وتحوّل إلى سوق تجاري ينافس الأسواق التاريخية في دمشق، مثل الحميدية والصالحية، وأصبحت مطاعم المخيم مورداً أساسياً لطعام المدينة الجاهز ليلاً ونهاراً، وأصبح من أكثر أماكن المدينة ازدحاماً.
ليس هناك حياة في المكان، ولم يعد المكان يصلح للعيش البشري أيضاً
هكذا كان الحال عندما انطلقت الثورة السورية، وعندما بدأ النظام في قصف المناطق المحيطة به، مثل الحجر الأسود والتضامن والقدم، احتضن اللاجئون القدامى اللاجئين الجدد في وطنهم، والذين قُدّر عددهم بـ200 ألف لاجئ في بيوت المخيم ومدارسه وجوامعه. وعندما قرّر النظام المجرم تهجير سكّان المخيم وقصفَه بالطائرات الحربية، كانت تغريبة جديدة في اليوم التالي، فلسطينيون يحملون مفاتيح بيوتهم في فلسطين والمخيّم، ويحملون القليل من الأغراض الضرورية التي سيحتاجونها في لجوئهم الجديد، وسوريون يحملون مفاتيح بيوتهم في المخيم، وبعض الأغراض القليلة تائهين في شوارع المخيم، لا يعرفون مكاناً يذهبون إليه.
لم يكتفِ النظام بتهجير سكّان المخيم، بل عملت مدفعيّته وبراميله المتفجّرة على تدمير مباني المخيم التي لا مبرّر عسكرياً لها، وما لم تدمّره وحشية النظام، دمّرته وحشية القصف الروسي في 2018، وحولته إلى ركام. وعندما انتهى النظام من تدميره، لم يُسمح للناس بالعودة الى أنقاض بيوتهم، هؤلاء الذين لم يعد بمقدورهم تحمل كلفة العيش خارج المخيم، الغلاء الرهيب في البلد الذي يقابله انخفاضٌ في دخول البشر أكثر رهبة، وقد حوّلت هذه الأوضاع الأغلبية في سورية عاملين وغير عاملين إلى جائعين.
عندما دخلتُ المخيم لم أتعرّف على معالمه، كتل إسمنتية رمادية تنتشر على امتداد النظر إلى مبانٍ مدمّرة، لم يكتفِ المجرمون بتدميرها، بل سرقوا كل شيء في المكان، حتى حديد الأسقف، فلا ترى بين الأنقاض أي لون آخر غير رمادية الإسمنت. مكان مدمّر، لا يعلن أنه لم تعد هناك عناوين تصل إليها عبر طرق المخيم فقط، بل وليس هناك حياة في المكان، ولم يعد المكان يصلح للعيش البشري أيضاً. لذلك، صُدمتُ عندما، قابلت بعض جيرانٍ لم يخرجوا مطلقاً من المخيم، وعاصروا مراحل الجريمة بحق المخيم 13 عاماً، بما فيها مرحلة حصار الجوع التي ذهب ضحيتها أكثر من 260 شخصاً من سكان المخيم.
لا يمكن قراءة وجوه من بقوا في مخيم اليرموك، هناك شيء غريب في ملامحهم
لا يمكن قراءة وجوه من بقوا في المخيم، هناك شيء غريب في ملامحهم، وكأنّهم قادمون من موت، تقول الوجوه إننا متنا عشرات المرّات، وكأنهم أمواتٌ مع وقف التنفيذ، لأنهم لا يجدون قبوراً تحتضنهم. لم أتعرّف على وجوه الجيران الذين بقوا في المخيم، هم من تعرّفوا عليّ، صديق الدراسة الذي تحوّل إلى هيكل عظمي، فقد ولديْن في المخيم، وجارتنا التي فقدت ولديْن، وحدّثتني عن خسائر الجيران الآخرين، سألتني: "بدّك ترجع على المخيم؟" جاملتها وقلت: "يمكن" أشارت بيدها إليّ لأقترب وكأن مخابرات الأسد الفارّ تتنصّت علينا، وهمسَت بأذني: "لا ترجع، إحنا أموات".
عندما شاهدتُ الفيديو الذي صوّرني إياه صديقي وأنا أجول ببن حطام منزلي المدمّر بدوْتُ تائهاً، أبحثُ عن نفسي وعن طفولة أولادي وضحكاتهم في هذا البيت، وعن صخب الأصدقاء في سهرات لا تنتهي، كنّا نحاول العيش في بلد احتله الطغيان من دون أن نتلوّث به، لكنه لم يتركنا بحالنا، فاستخدم كل وسائل القتل فينا، سوريين وفلسطينيين، وأنا بين دمار منزلي، شعرتُ بتناقض رهيب، أن جزءاً من حياتي وروحي قد أصابه الدمار بدمار هذا المنزل، والدمار الهائل القتل الرهيب لأهالي المخيّم والبلد، كما جعلني أشعر بالنجاة أنا وعائلتي من أنياب الوحش.