مخطّط ترامب لم يعد مُزحة
حين تحدّث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قبل أكثر من أسبوع، عن مخطّط نقل أهالي قطاع غزّة إلى مصر والأردن، اعتبر كثيرون الأمر مجرّد فكرة مجنونة مرّت بذهنه، كغيرها كثير من الأفكار التي اندثرت ولم يعُد يأتي على ذكرها، غير أن الأيام أظهرت أن ما عرضه ترامب لم يكن عَرضياً، أو مجرد مُزحة سمجة، بل مخطّط بات يذكرُه في كل تصريح له للإعلام، وانضم إليه وزراؤه والمتحدّثون باسم البيت الأبيض، والذين استفاضوا في شرح ما يقصده، وكله يدور حول تأكيد "ضرورة" خروج أهالي قطاع غزّة من أراضيهم، ريثما تتم إعادة الإعمار.
لم تفلح المعارضة الشديدة من مصر والأردن، المرشّحيْن لاستضافة أهالي القطاع، وغيرهما من الدول العربية، للخطة الأميركية في ثني سيد البيت الأبيض عن فكرته، والتي بُدئ عملياً في وضع الخطط اللوجستية لها من الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ أعلن وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أنه أوعز لجيش الاحتلال بتحضير خطّة لتهجير سكّان قطاع غزّة برّاً وبحراً وجواً.
زاد ترامب على ذلك بالإعلان عن تفاصيل ما ستقوم به الولايات المتحدة، بداية من تسلّمها قطاع غزّة من إسرائيل "بعد نهاية القتال"، ما يعني القفز على كل المراحل السابقة التي كانت تتحدّث عن آلية إدارة غزّة بعد الحرب. لكن الرئيس الأميركي لم يتطرّق إلى آلية الاستلام وكيف ستكون ومن سيضمنه على الأرض، خصوصاً أنه أشار إلى عدم الحاجة لوجود قوات أميركية على الأرض، وهو عكس ما كان قاله سابقاً عن إمكانية إرسال قوات أميركية. وأضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة ستعمل مع فرق تطوير من أنحاء العالم للتشييد في غزّة.
وهذا كله لن يحدث في نظر الرئيس الأميركي إلا بعد خروج سكان القطاع منه. واللافت في هذا المجال دخول أطراف جديدة على الخط، فلم يعد ترامب يتحدّث عن الأردن ومصر فقط، فآخر تصريحاته تطرقت إلى أن "سكان غزّة ستتم إعادة توطينهم في مجتمعات أكثر أماناً". وهو ما يتسق مع ما كشفته القناة 12 الإسرائيلية، عن خطط لدول بديلة، منها صوماليلاند، وبونتلاند والمغرب، فيما تحدّثت تقارير أخرى عن أيرلندا، والتي اعتبرت خارجيتها زج اسمها "مصدر إزعاج".
وكما أيرلندا، من المتوقع أن ترفض كل الدول التي تُطرح خياراً لتهجير سكان القطاع هذا المخطط. هذا يضاف إلى الإدانات الدولية الكثيرة لمشروع ترامب، والذي لا يحظى برضى من محيطين بالرئيس الأميركي الذين "صدموا" بما أعلنه، بحسب ما نقلت صحيفة نيوريورك تايمز عن بعضهم، إذ قالوا إن "الإدارة لم تقم بالتخطيط الأساسي لفحص جدوى هذا المقترح"، وتوقّعوا أن "الفكرة ستختفي شيئاً فشيئاً لأنها ليست قابلة للتطبيق". لكن هذا الاختفاء لن يكون سحب ترامب المخطط، بل تأجيله، ومن المرتقب أن تكون له تداعيات على الأرض، بداية من استئناف إسرائيل عدوانها على القطاع عقابا للفلسطينيين وغيرهم على رفض مقترح ترامب، وخصوصاً أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على وشك الانتهاء، ولا معطيات عن بدء المفاوضات على المرحلة الثانية. وحتى إن لم تستأنف الحرب، فإن فشل خطة ترامب سينعكس على إعادة الإعمار، المتوقع أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عنه، وتمنع آخرين من الدخول فيه، طالما أنه لا يتوافق مع ما يريده الرئيس الأميركي. وبالتالي، سيبقى أهل القطاع في العراء والخيم أو منازلهم المهدّدة بالسقوط وسط غياب لأبسط مقومات الحياة. وستكون هذه التداعيات وسيلة أخرى من الرئيس الأميركي وإدارته للضغط على من تبقى من أهالي قطاع غزّة لمغادرته، وهو ما قد يترافق مع تسهيل التهريب والتسلل عبر الحدود.
واضح أن ترامب جادٌّ جداً في ما يقوله، وبات من الواجب عربياً ودولياً عدم التعاطي مع مخطّطه بوصفه مجرّد مزحة أو ضرباً من الجنون.