مخطّطٌ أميركي لتصفية القضية الفلسطينية

30 يناير 2025
+ الخط -

ليس مفاجئاً ما صرّح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نهاية الأسبوع الفائت، حين اقترح تهجير سكّان من قطاع غزّة إلى الأردن ومصر بذريعة دمار القطاع. فلا يزال الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال من الولايات المتحدة مفتاحَ وصولِ أيّ مرشّح إلى البيت الأبيض؛ لا فرق في ذلك بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كل ما هناك أن نُخَب الحزبَين، والقوى الاجتماعية المصطفّة حولهما، ومراكزَ القوة وجماعات الضغط والمصالح، تختلف في سُبل تحويل هذا الدعم إلى محرّك رئيس في رسم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وتوجيه بوصلتها.

يتقاطع مقترح ترامب مع طروحات اليمين الصهيوني المتطرّف، الذي يضع تهجير الفلسطينيين في سلّم أولويات خطابه العنصري، ويُعيد إحياء حلم ''إسرائيل الكُبرى''، الذي لا يعني غير احتلال بلدان عربية وتفتيت نسيجها الأهلي بدعم أميركي مكشوف. وعلى الرغم من أن عمّان والقاهرة تعارضان بشدّة مخطّط التهجير، بالنظر إلى تداعياته الديمغرافية والاجتماعية والسياسية (في الحالة الأردنية) والأمنية (في الحالة المصرية)، إلا أن طرح ترامب مقترحاً بهذه الخطورة، في هذا التوقيت، لا يربك حسابات البلدَين العربيين فقط، بل أيضاً حسابات النظام الرسمي العربي (إن كانت لديه حسابات أصلاً)، ويُفاقِم أزمته البنيوية الناجمةِ عن افتقاده الفاعليةَ، وانقسام مكوّناته، وعجزه عن توظيف تناقضات النظام الدولي في بناء تحالفات إقليمية ودولية جديدة، تُتيح له هامشاً للتصدّي لتوحُّش دولة الاحتلال. ولذلك، يفتح ترك الأردن ومصر وحدهما في مواجهة الضغوط والابتزازات الأميركية أبواب جهنم على المنطقة، ويهدّد بإعادة رسم خريطتها وفق أكثر السيناريوهات رعباً.

في المقابل، قد يكون مقترح الرئيس الأميركي متأخّراً، فليست هناك أهوال وويلات أفظع ممّا عاشه سكّان غزّة أكثر من 15 شهراً، فقد تحمّلوا ما لا تتحمّله الجبال، حتى لا يخرجوا من ديارهم، وقبولُهم حالياً التهجير القسري يعني تقديم القضية الفلسطينية لإسرائيل والولايات المتحدة على طبق من ذهب من أجل تصفيتها والتخلّص من ''الكابوس الفلسطيني'' إلى الأبد. هذا إضافة إلى أن المقاومة، وإن لم تنتصر على دولة الاحتلال في حرب غزّة، إلا أنها في الوقت ذاته لم تنهزم، رغم التفوق العسكري الإسرائيلي والدعم الغربي. وقد كانت دالّةً للغاية الرسائلُ السياسية والرمزية التي أرادت حركة حماس إيصالها إلى من يهمّهم الأمر في دولة الاحتلال والإقليم والغرب، إبّان عملية تسليم الدفعتَين الأولى والثانية من المحتجزين، أولاها الحضور السياسي والإداري للحركة، وللمقاومة بوجه عام، والذي لا يزال قوياً، ما يعني (بقدرٍ أو بآخر) إخفاقَ دولة الاحتلال في تحقيق معظم أهدافها من حربها على غزّة.

لم تكن "حماس"، ولا باقي الفصائل، تنتظر تغييراً في موقف الإدارة الأميركية الجديدة بشأن الصراع. وبالتالي، لا يختلف ما قاله ترامب في الواقع عما سعى سلفه، جو بايدن، إلى تحقيقه بدعمه حربَ إبادةٍ وحشيةً أكثر من 15 شهراً، وفي غضون ذلك، لم تتوقّف إدارته عن محاولة استدراج مصر للموافقة على مخطّطٍ لتهجير سكّان القطاع وتوطينهم في شمال سيناء في مقابل مساعدات اقتصادية مُغرِية. يتعلّق الأمر بمخطّط أميركي لتصفية القضية الفلسطينية، تتوازى فيه مخطّطات التهويد والاستيطان والأسرلة والتهجير والتطبيع مع الدول العربية، بما يساعد على تفتيت دول الإقليم وتثبيت دولة الاحتلال قوةً إقليميةً كبرى. وهو ما يعني عملياً، نهاية ''حلّ الدولتَين''، الذي يبدو أن مواقع صنع القرار المؤثّرة في واشنطن لم تعد قادرة على تسويقه بعد مأساة غزّة واستمرار دولة الاحتلال في تعنّتها ورفضها مبادرات السلام كلّها، المطروحة لإنهاء الصراع، ومنح الفلسطينيين حقوقهم.

كانت مشاهد حشود الفلسطينيين العائدين إلى أماكن سكناهم المدمّرة في شمال قطاع غزّة، مطلع الأسبوع الجاري، حافلةً بالدلالة، ففضلاً عن أنها ردٌّ إنسانيٌّ ووطنيٌّ بليغٌ على مقترح ترامب، فإنها تُعيد إلى الواجهة فكرة ''العودة'' بكلّ مركزيتها في الوعي الفلسطيني المعاصر. وبالوسع القول، إن تلك المشاهد قد تكون أوّل خطوة في درب نسف مخطّط التهجير، والمخططات التي تستهدف اجتثاث الوجود الفلسطيني.

95768568-C0E8-4560-9618-6131E931F5D6
محمد أحمد بنّيس

شاعر وكاتب مغربي