Skip to main content
مخاطر المرحلة المؤقتة الجديدة في ليبيا
خيري عمر
احتجاج في طرابلس ضد مجلس النواب يطالب بالانتخابات واحترام الدستور (11/2/2022/ فرانس برس)

بعد تعطُل الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا، تمضي الفواعل السياسية المحلية في تطوير أشكالها وصياغة تطلعاتها المرحلية. وفي هذا السياق، يثير توجه ليبيا نحو مرحلة انتقالية جديدة النقاش بشأن إمكانية الوصول إلى الانتخابات في ظل تغير التحالفات والترابطات السياسية. وهنا، تبدو أهمية مناقشة خرائط القوى السياسية وتوجهاتها ومدى التلاقي على أهدافها المشتركة، ويُمكن النظر إلى اختيار رئيس جديد للحكومة، فتحي باشاغا، بأغلبية مريحة، مؤشّراً على تضافر عدة أطراف في تشكيل الوضع الراهن، غير أن عوامل الانقسام تظل تهديداً في المراحل المختلفة.

خلاف المرجعية القانونية

ظهر اتجاهان، يميل الأول إلى بدء مرحلة مؤقتة جديدة يتم فيها تغيير الحكومة. وفي هذا السياق، بدأت عملية قانونية وسياسية لوضع الإطار الانتقالي الجديد، عبر عملية تشريعية بدأت باجتماعات لجنة مشتركة من مجلسي النواب والدولة، انتهت في 30 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، لوضع الملامح القانونية، فقد اتجهت أطر المرحلة المؤقتة إلى توسيع المشاركة في صناعة القرار والترتيبات القانونية، حيث توافقت لجنتا النواب ومجلس الدولة على نقطتين مهمتين: مراجعة مشروع الدستور الصادر عن الهيئة التأسيسية في 2017، تشكيل اللجنة من 24 عضواً، حيث قامت على فكرة التمثيل المتساوي لكل من مجلس النواب، مجلس الدولة، الهيئة التأسيسية وستة خبراء، على أن يجري تضمين هذه الترتيبات في إعلان دستوري يختص مجلس النواب بإصداره. وفيما يتعلق بتغيير السلطة التنفيذية، خلصت مقترحات اللجنة المشتركة إلى اختيار رئيس جديد للحكومة لتزكياتٍ لا تقل عن 40 من مجلس النواب و30 من مجلس الدولة.

وقد توافق طرفا اللجنة على تجنب مناقشة المناصب السيادية لما بعد التعديل الستوري. وقد يرجع ذلك لعوامل، منها أن الخوض في هذه المسألة سابقاً أثبت عدم جدواها، وأنها بجرّة قلم لم تكن سوى توسيع الخلافات وإطاحة الاتفاق السياسي (الصخيرات، 2015)، كما أن الانتخابات قطعت شوطاً في ترتيب أوضاع سياسية يصعب معها الحديث في المناصب العليا وبعض شاغلي المناصب السيادية هم مرشّحون لرئاسة الدولة.

يثير توجه ليبيا نحو مرحلة انتقالية جديدة النقاش بشأن إمكانية الوصول إلى الانتخابات في ظل تغير التحالفات والترابطات السياسية

وقد أبقى التعديل الدستوري، 10 فبراير/ شباط 2022، كثيرا من مقترحات اللجنة، أهمها استمرار المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة، وإعداد دستور مؤقت خلال 45 يوماً. وبشكل عام، يتأسّس التعديل الدستوري على المرجعيات القانونية، كما تضمن القانون رقم 10/ 2014 وتعديلاته ليكون المحدّد الرئيسي لقوانين الانتخابات المقبلة، واللجنة المشتركة بين مجلس النواب والدولة، حيث أقر تشكيل لجنة مراجعة الدستور، 24 عضوًا، وأضاف شروطاً تتعلق بتوزيعها بالتساوي على الأقاليم الجغرافية الثلاثة مع مراعاة التنوع الثقافي، وينتهي عملها في خلال 60 يوماً حدّا أقصى. وفي حال فشل هذا المسار، تضمن التعديل الدستوري تشكيل لجنة مشتركة من النواب والدولة لوضع قاعدة دستورية وقوانين انتخابية ملزمة، على أن تكون الفترة المؤقتة 14 شهراً من تاريخ التعديل الدستوري.

أما التوجه الثاني، ويمثله رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، حيث يتمسّك بموقعه ويعمل على إطلاق خطة لإجراء الانتخابات في يونيو/ حزيران 2022 واستمرار الحكومة حتى انتهاء الانتخابات وفقاً للاتفاق السياسي. وفي هذا السياق، نظر، في 12 فبراير، إلى توجهات عقيلة صالح، بمثابة إحياء للانقسام، وتُمثل عقبة في طريق الانتخابات. ولذلك دعا إلى التظاهر في 17 فبراير لإسقاطه، ليبدأ مسار نزاع على المشروعية. وهنا، يتّجه رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، إلى الارتكاز على تفسير قانوني يمكّنه من الاستمرار في موقعه السياسي. وبرجوعه إلى القاعدة الدستورية في إقالة الحكومة، حسب التعديل الدستوري الرابع لسنة 2012، يخلص إلى اشتراط تصويت 120 لصالح القرار، ولذلك تظل حكومته قائمة، وفق خريطة طريق فبراير 2021، حتى تشكيل أخرى منتخبة. وطرح خطة عمل تقوم على مساري الاستفتاء على الدستور وإعداد قانون الانتخابات البرلمانية، غير أنه تجنّب الحديث عن إعداد قانون الانتخابات الرئاسية، ربما لوجوده طرفاً في المرشّحين.

من الصعوبة وضع معيار قانوني ينظم التراتب القانوني بين مجلس النواب ولجنة الحوار السياسي

وعلى المستوى الدولي، لقيت قرارات البرلمان تأييد دول كثيرة قريبة من التأثير في الملف الليبي، بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، حيث اعتبروا أن مجلس النواب اتخذ قرار اختيار رئيس وزراء جديد والتعديل الدستوري بطريقة شفافة وتوافقية. وعلى المستوى الإقليمي، وصفت مصر التشاور بين المجلسين، وفقاً لاتفاق الصخيرات، بالعمل الإيجابي يدعم وحدة الدولة وضبط السياسة الداخلية تمهيداً لإجراء الانتخابات، فيما يظل موقف مستشارة بعثة الأمم المتحدة، ستيفاني وليامز، متأرجحاً، فتُؤسس موقفها على الاعتداد بسيادة المؤسسات الليبية، وهو موقف أقرب إلى انتظار نتائج الجدل والصراع بين الليبيين.

فوضى التشريع والكيانات المتنافرة

ووفق هذا السياق، يتراجع الوزن النسبي للهيئة التأسيسية في صياغة الإطار الدستوري. ولذلك، رأت أن تصرفات مجلس النواب تعدّ على اختصاصاتها، وخصوصاً في تشكيل كيانات مناظرة المهام تقوم لمراجعة مشروع الدستور قبل الاستفتاء عليه، حيث ترى أن محاولات التعديل تجاوز لاختصاصها، كما أن الدخول في التعديلات يؤدّي إلى تعميق الخلاف والابتعاد عن القانون. ولهذا طالبت الجمعية العمومية للمحكمة العليا بمراقبة التشريعات ومراجعتها.

ويُعد ادعاء الهيئة التأسيية باختصاصها بمتابعة مشروع الدستور وتعديلاته مثالاً على غموض التشريعات، فوفقاً للقواعد القانونية، ينتهي دور الجهة التأسيسية بتسليم مشروع الدستور وتسليمه لجهة أخرى، غير أنه في الحالة الليبية، تستند الهيئة على تأويل قانوني في حماية المشروع حتى طرحه للاستفتاء. وهنا، لا يمكن إغفال أن التباطؤ الواضح في صياغة مشروع الدستور، منذ 2014 تحت رئاسة علي الترهوني، ظل من عوامل الأزمة السياسية. وهنا، تبدو مُعضلة التوفيق بين الكيانات المتنافرة، سواء كانت لجنة مراجعة الدستور والهيئة التأسيسية أو الحكومة القائمة وأخرى مُكلفَفة، حيث تترتب أزمات مفتوحة، لا تقتصر على النزاع القانوني وتعارض مرجعية تأسيسه، وإنما تتقاطع مع الصراع السياسي.

 لم تسر عملية بناء القوة والسلطة على وتيرة واحدة، وذلك لاختلاف الوجوه السياسية وتغير النسق القانوني

ويمكن ملاحظة أن المسار القانوني، منذ 2011، ظل سلسلة فجواتٍ سَهلت تناقض التفسير القانوني، حيث تُعاني التشريعات المؤقتة من غياب مُحددي الحل البديل في حالة الإخلال بالمسار السياسي، وتكييف انقضاء سلطة المؤسسات واعتبارها منتهية أو تسييرية. وقد ساهم النقص في ضبط السلطة انتهاء في انفتاح دورات المراحل المؤقتة، بتجنّب العودة إلى الإرادة الشعبية والتحايل عليها. ويكشف المسار الدستوري عن انحرافات تشريعية لم تلبّ الطلب على الاستقرار أو الديمقراطية. وعملت التعديلات المتلاحقة على تحويل المادة 30 من الإعلان الدستوري من تسهيل التعرف على المشروعية لاتخاذها تكئة لتفسيرات متباينة، وصار نصها أقرب لخريطة متناقضات لا يمكن تلمس تفسير منتظم يحقق التلاقي على مصلحة مشتركة، وأيضاً، فإنه من الصعوبة وضع معيار قانوني ينظم التراتب القانوني بين مجلس النواب ولجنة الحوار السياسي، ويساهم هذا الخلط في تعقيدات الحالة الراهنة وغموض حجية تصرّفات كل الأطراف.

بناء القوة السياسية وتفكّكها

اتسمت نظم الانتخاب والاختيار في ليبيا بضعف واضح في تجميع القدرات السياسية، حيث ظلت المؤسسات مُمثلةً جزءا صغيرا من الشعب، وكما كانت هذه الظاهرة واضحةً في انتخابات الهيئة التأسيسية ومجلس النواب في 2014، توضح مؤشّرات تلك النتائج غياب كتلة سياسية/ قيادة تُمثل ملتقى السياسة في ليبيا، غير أن الظاهرة الأكثر أهمية بقاء الشخصيات الأكثر تأثيراً ونفوذاً خارج القائمة الفائزة، ويمكن أن تساعد تلك النتائج في قراءة الأزمة الجارية منذ بدء إجراءات سحب الثقة وحتى عدم قدرتها على تسيير الانتخابات ومحاولات عزلها.

ولم تسر عملية بناء القوة والسلطة على وتيرة واحدة، وذلك لاختلاف الوجوه السياسية وتغير النسق القانوني. وفي سياق الأحداث الجارية، تكشف عملية اختيار السلطة التنفيذية في فبراير/ شباط 2021 عن تبعثر الخريطة السياسية ودخول أطراف جديدة تصاعد أداؤها الانتخابي بشكل مُلفت وفي وقت قصير. وعلى الرغم من حصول أعضاء المجلس الرئاسي الحالي على ثمانية أصوات في الجولة الأولى بنسبة 10.8 % من إجمالي الاصوات، حيث حصل مرشّحها، عبد اللافي على صوت واحد من إجمالي 36 في المنطقة الغربية، والمرشّح الآخر على صوتين من 14 صوتاً في الجنوب، فيما كانت نسبة أكثر الحاصلين على أعلى الأصوات عقيلة صالح 9 / 23، 39 %، خالد المشري 8 / 36 – 22 % وسيف النصر 6 / 14 – 42 %. تكشف هذه الحالات عن تشتت السلوك التصويتي، فلم يستطع أي من المرشّحين الفرديين الفوز بعضوية المجلس الرئاسي بالتصويت الفردي، وهو ما ظهر في اختيار القوائم أيضاً، حيث لم تتمكن قائمة من الحصول على 60 % من إجمالي الأصوات. وقد استمرّت هذه الظاهرة في التصويت للقوائم، وفيما حصلت قائمة محمد المنفي على 20 صوتاً ثم ارتفعت إلى 39، فيما كانت قائمة عقيلة 25 صوتاً ارتفعت إلى 34. ما يعكس وجود طفرة في اتجاهات التصويت، جرى تفسيرها بقبول القائمة غير المتسببة في الأزمة السياسية.

لم تستطع ثورة فبراير تكوين مؤسسات ثورية أو إصلاحية يمكن الارتكاز عليها في ترتيب مسارات بناء الدولة

وفي سياق مقابل، يتبلور تقارب بين الأطراف الأخرى، فبجانب تلاقي مرشحي الرئاسة، فتحي باشاغا، عقيلة، خليفة حفتر وآخرون، يرى مجلس الدولة، 1 فبراير، ضرورة وجود خريطة طريق تشمل كل المسارات والتشاور حول قوانين الانتخابات سياقا متزامنا مع تغيير الحكومة، وهو ما يمثل تموضعاً ضمن سياق الرابطة الجديدة. وكانت مؤشّراته الأولية في وصول التلاقي بين المجلسين؛ النواب والدولة، إلى مرحلة غير مسبوقة في التضامن تجاه الترتيب للمرحلة المؤقتة الجديدة. ويكشف التوافق على صلاحيات النواب المنفردة تغيراً نوعياً، وتُمثل تزكية فتحي باشاغا واختياره رئيساً للوزراء وتشكيل لجنة تعديل مشروع الدستور مؤشّراً واضحاً على التلاقي حول استمرار سلطة البرلمان ودعم تشريعاته.

وبدت مواقف رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، أكثر تقارباً مع قرارات مجلس النواب، وخصوصاً فيما يتعلق بانتهاء الحكومة الحالية في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، مستنداً لشروط منحها الثقة في مارس/ آذار 2021. وبعد صدور التعديل الدستوري، تبنّى رئيس مجلس الدولة اختيار رئيس جديد للحكومة واعتبره وضعاً قائماً، غير أنه يمكن النظر إلى تأجيل اجتماع مجلس الدولة في 14 فبراير/ شباط مؤشّراً على وجود انقسام على خلفية النزاع حول الحكومة وإقرار التعديل الدستوري بنسبة دون ثلثي أعضاء المجلس، حيث يرجع سبب التأجيل إلى اعتذار عدد كبير من الأعضاء. وفي السياق ذاته، يُعد تأييد تغيير الحكومة، 52 عضواً، مؤشّراً مُعززاً لاتساع الخلاف بشأن توجهات رئيس المجلس، خالد المشري، على خلفية انفراد مجلس النواب بالتعديلات المهمة. وثمّة قلق لدى بعض الأحزاب من أن وضع القانون رقم 10/ 2014 ضمن ديباجة التعديل الدستوري يحرمها من التمثيل السياسي.

وبغض النظر عن السجال القانوني أو السياسي، يُلقي النزاع الدائر بظلاله على القوى السياسية في غرب ليبيا، حيث بدت ملامح الإنقسام أكثر وضوحاً في الأيام الماضية. ومع تباين الحجج وانحيازات المسلحين وتعدّدها، سيبدو نقل السلطة أو استلامها عملية صعبة تتداخل فيها العوامل السياسية والعسكرية، وبشكلٍ يكشف عن تجاوز ثورة فبراير، حيث لم تستطع تكوين مؤسسات ثورية أو إصلاحية يمكن الارتكاز عليها في ترتيب مسارات بناء الدولة.