محنة الكاريكاتور
رسم من المغرض الاستعادي للكاريكاريست التونسي علي عبيد (العربي الجديد)
احتفى معرض تونس الدوليّ للكتاب، في دورته الـ 39، التي تختم فعالياتها اليوم الأحد (4 مايو/ أيار 2025)، بقدوم الكاريكاتوريّين التونسيّين، علي عبيد (1938)، الذي امتدّت تجربته نصف قرن، وأنجز آلاف الرسوم، وتعامل مع أصناف عديدة من الإكراهات، وتابع الكثير من التحوّلات التي شهدها الإنسان في بلاده وفي العالم. ولعلّها فرصة لإلقاء نظرة خاطفة على كل معاناة فنّ الكاريكاتير العربيّ، في هذه المرحلة الصعبة.
ولدَ الكاريكاتورُ التونسيّ مع ظهور أُولَى الصحف الهزليّة حوالي 1906. إلّا أنّ قدوم الشاعر محمد بيرم التونسي سنة 1932 ساهم في إخراج هذا الفنّ من دائرة التسلية. ثمّ اكتشف الرسّامون قدرة فنّهم على تحويل الفكاهة إلى سخرية. ولعبَ عمر الغرايري، رسّام صحيفة الوطن في 1947، دور الأب الحقيقيّ لهذا النزوع الجديد، الذي حوّل السخرية إلى نقد، وحوّل النقد إلى مقاومة اجتماعية وأخلاقيّة وفكريّة وسياسيّة.
وفي هذا السياق، برز علي عبيد في صحافة دولة الاستقلال. وكان قد زاول قبل ذلك أعمالاً كثيرة، من بينها، عملُهُ حارساً شخصيّاً للزعيم الحبيب بورقيبة. إلّا أنّ قربه من الزعيم لم يوسّع من هامش حرّيته، ولم يحصّنه من الغضب الرئاسي. من ذلك أنّه رسمَ سنة 1973 الشاعرَ أحمد اللغماني (1923 - 2015) وهو يعزف على آلة الدفّ (البندير)، كنايةً عن تملّق الرئيس، فحزّ ذلك في نفس الشاعر، وكان الرئيس يحبّه، فاستدعى الرسّام، بحسب روايته، وصرخ في وجهه، ووبّخه، وقال له ما معناه: أنا رئيس هذا البلد ورئيس الجريدة التي تشغّلك، وليس من المعقول أن تسيء الأدب في "جريدتي"!
والحقّ أنّ جيل علي عبيد الذي لا يشكّك أحدٌ في مواهب ممثّليه، ظلّ يراوح في الأغلب بين ضغط السلطة وشروط الفنّ. ما اضطرّ رسّامين كُثرًا إلى ممارسة نوع من "التنكيت المرسوم" المتعلّق بمواضيع الفنّ والرياضة والأدب، في ما يسمّى "البطن الرخوة"، مع الابتعاد عن الاحتكاك بالممنوعات إلّا فيما ندر. واستمرّ الوضع على حاله حتى ظهور الصحافة المستقلّة والمعارضة، التي أفسحت المجال لرسّامين لاذعين ذهبوا بفنّهم إلى أقاصي التجربة، ودفعوا أثماناً باهظة. وكان الظنّ أنّ من علامات الديمقراطيّة أن يتساوى الجميع أمام الكاريكاتور. لكنّ الأمور لم تجرِ بما يشتهي الكاريكاتوريّون العرب. حتّى لم يكد المتابع يرى رسماً كاريكاتوريّاً لمسؤولِ دولةٍ ما إلّا في دهاليز الأنترنيت، أو في الصحافة "المهاجرة"، أو في صحافة الدول "الخصوم"، بل إنّ العدوى تفشّت في الغرب نفسه، إذ بدأ يُضيّق الخناق على الحريّات، وعلى حريّة التعبير تحديداً، بدعاوى الأمن والأخلاق.
وإنّك لتنظر إلى فنّان الكاريكاتور اليوم، في مطلع هذا القرن الجديد، فإذا هو في الغالب أسير اللعبة نفسها. كان يرسم المسؤولَ الكذّاب بأنفٍ طويلٍ مثل أكاذيبه، والبرلمانيَّ الانتهازيّ بكرش منتفخة بحجم امتيازاته، أما اليوم، فمن يسمح له بشيء من هذا؟ ولماذا يفعل؟ لقد بات الواقع أكثر تفوقاً على الخيال والخيبة، وأصبح المسؤول كاريكاتوراً مكتملاً من دون أي تعديل فنيّ. كما تغيّرت لغة السخرية. لدغاتُ الرسوم التي كانت تنغرس مثل خنجر مخمليّ في عقل المتلقّي، باتت تُلقَى اليوم مثل القنابل الدخانيّة، من داخل غابةٍ رقميّة، تحكمها برامج الذكاء الاصطناعيّ، التي أطمعت الجميع في التحوّل إلى أكبر كاريكاتوريست في العالم وضواحيه. برامجُ مقبلةٌ على قَتْلِ مجموعة من المِهَن والفنون، قد يكون من بينها فنّ الكاريكاتور. والأمر غير مستبعد. يكفي أن تطلب من البرنامج الفكرة التي تريد، وهو قادرٌ على إعطائك رسماً كاريكاتوريّاً بأسرع من سرعة الضوء، وببراعة تقنيّة لا يقدر على مضاهاتها أكبر تقنيّي المهنة.
قد يبدو المشهد مضحكاً لمن يراه من بعيد، لكنه في الحقيقة ليس كذلك: الكاريكاتور الذي يخيّل إليه أنّه تحرّر عاد إلى المربّع نفسه، إلى المحنة نفسها، محنة غياب الحريّة. وحتى حين تدّعي الأنظمة الديمقراطيّة أنها تحبّه تكذب عليه. إنّها تتحمّله في انتظار أن تحمل عليه. وها هي تلاحقه اليوم في المواقع الخوارزميّة بدعوى أولويّة الأمن على شرط الحريّة. وعلى الرغم من هذا كله، لا يأس. سيظلّ الكاريكاتور يقاوم ليعبر المحنة. ستظلّ الضحكةُ ممكنة حتى عند رأس الميت، وحتى إن تعسّرت وبدت هستيريّة، شبيهةً بنوبة سُعال ساخرة، تخرج من قاع الخيبة ثم تتطاير كالغبار في الهواء.