محنة الديمقراطية التونسية

محنة الديمقراطية التونسية

11 ديسمبر 2021
+ الخط -

كثيرا ما تحدّث التونسيون، بقدر من الفخر الذي يقترب من الغرور المبالغ فيه أحيانا، عن استثنائية تجربتهم الديمقراطية في محيط عربي، يتسم بكثرة التقلبات السياسية وعودة شبح الدكتاتوريات بصنفيها، المدني والعسكري. كان ذلك قبل أن يأتي عليها قيس سعيّد بمعول الهدم والتقويض الشعبويين من القواعد، ويعود بتونس الى مرحلة ما قبل البايات أصلا، حيث باتت تجتمع اليوم بين يديه كل السلطات تقريبا من تنفيذية وتشريعية وقضائية ورقابية بشكل غير مسبوق.
كانت تونس مهيأة منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي لإنجاز تحوّل ديمقراطي جادّ، بسبب وجود شروط سياسية اجتماعية محفزة على ذلك. والحقيقة أن كل ما فعله زين العابدين بن علي، بعد إزاحة سلفه الحبيب بورقيبة من قصر قرطاج سنة 1987، لا يزيد عن تأجيل عملية التحوّل لما يزيد عن عقدين، بعد أن استولى على شعارات الحركة الديمقراطية، وأطلق وعودا خلابة في الإصلاح السياسي، لم ينفذ منها شيء فيما بعد.
تتوفر تونس، لاعتبارات تاريخية وسياسية، على مجموعة من المحدّدات والعوامل المناسبة للتحوّل الديمقراطي، ومن ذلك حالة التجانس المجتمعي وغياب الانقسامات الدينية والعرقية، بما جعل من خلافات التونسيين تبقى في الدائرة السياسية، على الرغم من طابعها الحادّ في حالاتٍ كثيرة، ثم حيادية المؤسسة العسكرية نسبيا، ونأيها عن التدخل في الشأن السياسي المباشر، الأمر الذي حفظ الطابع المدني للدولة التونسية، على الرغم مما اتسمت به من سلطوية زعاماتية مع بورقيبة، ثم سلطوية بوليسية في حقبة بن علي، يضاف إلى ذلك وجود مجتمع مدني نشيط وحركة سياسية ذات خبرة نسبيا، على الرغم من حالة الإنهاك التي اصابتها بسبب المحاصرة الأمنية، وقد تمكّنت هذه الحركة فعلا من تجاوز خلافاتها الداخلية، عبر إصدار وثائق سياسية تضبط المشتركات الفكرية والسياسية العامة منذ سنة 2005، بما مكّنها من توحيد صفوفها لاحقا والتخلص من حقبة بن علي المظلمة.

من بين عوامل نجاح التجربة التونسية ضعف التأثير الخليجي، مقابل ثقل الدور الأوروبي الذي لم يكن ممانعا لولادة تجربة ديمقراطية على حدوده الجنوبية

صمدت التجربة التونسية في مواجهة عواصف هوجاء وحالات الارتداد التي أصابت كل الثورات العربية تقريبا، من مصر وليبيا إلى اليمن وسورية، وبقيت تمثل حالة استثنائية في مشهد عربي محكوم بالدكتاتوريات وأنصاف الدكتاتوريات، وخلافا لما يتوهم كثيرون من أن خيار التوافق الذي تم انتهاجه سنة 2014 بين حركة النهضة وحزب نداء تونس من بين أسباب تعثر التجربة التونسية، فإنه بفضل هذا التوافق تم تخطّي الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد سنة 2013، وهذا يعني، على الأقل، تأجيل عملية الانهيار التي كانت تدفع نحوها قوى كثيرة في الداخل والخارج. وإذا كان هناك من فضيلة لهذا التوافق، فهي تحصين التجربة الديمقراطية الوليدة، وتثبيت مرجعية الدستور الجديد، وعدم الارتداد إلى مرحلة ما قبل الثورة، ويُحمد للرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، الذي ضمّ تحت عباءته روافد متعدّدة، بما في ذلك بعض القوى الاستئصالية، صموده في وجه الضغوط والمغريات التي كانت تدفع باتجاه الانقلاب على الدستور، إذ أصرّ الرجل على ختم حياته باكتساب صفة الرئيس الديمقراطي، على الرغم مما شاب توجهاته من بعض التقلب في الأشهر الأخيرة من حكمه، خلافا لقيس سعيّد الذي ركب مركب الانقلابات العسكرية، واستهواه الحكم الفردي المطلق.
ويجب أن يضاف إلى ذلك هنا أن من بين عوامل نجاح التجربة التونسية، بالإضافة إلى ما هو أعلاه، ضعف التأثير الخليجي، مركز الصدّ والممانعة للتحول الديمقراطي في المنطقة، مقابل ثقل الدور الأوروبي الذي لم يكن، في الحد الأدنى، ممانعا لولادة تجربة ديمقراطية على حدوده الجنوبية، إذ يرتبط الاقتصاد التونسي، إلى حد كبير، بأوروبا، في حين لا تتجاوز العلاقة بدول الخليج تصدير الكوادر وبعض اليد العاملة التونسية لا غير، ولا يعود الأمر إلى هامشية البلد كما تصور بعضهم، فقد ظلت تونس بمثابة مرآة تعكس التوازنات العامة في المنطقة، كما أن تموقعها على حدود بلدين نفطيين، الجزائر وليبيا، ثم جوارها الأوروبي المباشر، قد زاد من أهميتها الجيواستراتيجية.
إذا كانت المعطيات السابقة تتعلق بالماضي القريب، فإن السؤال الأهم يتعلق بالوضع الراهن: ما الذي جعل التجربة الديمقراطية التونسية تنتكس بهذه السرعة، ويؤول مصيرها إلى الحالة الراهنة؟ عند التدقيق، يتبين أن أكثر العوامل الحاسمة في عملية الارتداد على النحو الذي شهدته تونس منذ يوم 25 جويلية (يوليو/ تموز) الماضي، يعود إلى وجود قوة من داخل الدولة نفسها صممت على تقويض البناء الديمقراطي، مستغلة حالة الاحتقان الاجتماعي الناتجة عن تراكم الصعوبات الاقتصادية والمالية التي زادتها أزمة كورونا حدّة، وكان ذلك مسنودا بدعم إقليمي واضح.

لا أحد من رؤساء الجمهورية أو رؤساء الحكومات السابقين تجرّأ في الخروج على خط الدستور ووعاء المؤسّسات، أو فكّر في استغلال الصعوبات

في السنوات الماضية التي أعقبت الثورة، كانت مؤسسات الدولة، في الغالب، وتتضامن فيما بينها لحماية نفسها من اهتزازات الشارع الذي كان يتغذّى من مناخات الحرية وارتفاع انتظارات الناس، إلى جانب أجواء التحريض الإعلامي ضد الحكومات المتعاقبة. ولكن رأس الدولة نفسه، المفترض فيه حمايتها، تحوّل، هذه المرّة، مصدر الخطر والتهديد المباشر للنظام الديمقراطي. كان ذلك في البداية من خلال تعطيل عمل الحكومة، والدخول في مناكفات مع البرلمان وأحزاب الأغلبية، ثم اختطاف كل السلطات لاحقا.
واجهت حكومات ما بعد الثورات صعوباتٍ جمّة كادت تعصف بها في محطّات كثيرة، من حركات احتجاج ومطلبية اجتماعية واغتيالات سياسية وموجات إرهاب وصعوبات اقتصادية وغيرها. ومع ذلك، صمدت في مواجهات هذه التحدّيات، واستجمعت مقومات الاستمرار بفضل تضامن مؤسسات الحكم، ودعم الحزام السياسي المحيط بها. لا أحد من رؤساء الجمهورية أو رؤساء الحكومات السابقين تجرّأ في الخروج على خط الدستور ووعاء المؤسّسات، أو فكّر في استغلال تلك الصعوبات، للانقضاض على السلطة أو إزاحة منافسيه باستخدام القوة الصلبة، بل حرصوا جميعا على الالتزام بالتقاليد السياسية الراسخة بإبعاد الجيش عن الصراعات السياسية وإدارة الخلاف داخل المؤسسات. فؤاد المبزّع الذي انتقل إلى قرطاج بعد رحيل بن علي، لم يزد دوره على معاضدة الحكومة الانتقالية للوصول إلى انتخابات 2011، منصف المرزوقي كان انحيازه واضحا لخط الثورة والديمقراطية، مع أنه لم يكن راضيا عن التوجه نحو النظام البرلماني وكان يدفع باتجاه نظام سياسي أكثر ميلا إلى الرئاسي، المرحوم الباجي قايد السبسي مورست عليه ضغوط كبيرة من المحيطين به، وبتحريض إقليمي، لاستخدام الفصل 80 من الدستور في أجواء خصومته الحادّة مع يوسف الشاهد الذي اختاره لرئاسة الحكومة، ومع ذلك صمد وظهر في خطاب علني، وقال بصريح العبارة "لن أفعلها، ولن أضحّي بالدستور والديمقراطية مهما كانت عيوبهما"، على الرغم من أنه لم يكن راضيا عن فلسفة توزيع السلطات. محمد الناصر الذي تولى الرئاسة مؤقتا بعد وفاة الباجي لم يخرج عن الخط العام لسلفه، واقتصرت مهمته على إيصال البلاد إلى انتخابات تشريعية ورئاسية، وتسليم المشعل لمن بعده في إطار استمرارية الدولة. الوحيد الذي فعلها وحدّثته نفسُه الأمّارة بالسوء هو قيس سعيّد، وهو الذي ما كان شيئا يُذكر لولا النظام الديمقراطي ودستور الثورة الذي أتاح له المنافسة على الموقع الأول للحكم.
ينبهنا انقلاب سعيّد على الدستور إلى ظاهرة سياسية أيديولوجية بالغة الخطورة والتأثير في مجرى الحياة السياسية التونسية، والعربية عامة، وهي وجود نخب ومجموعات غير ديمقراطية مستعدّة للذهاب بالبلد الى الجحيم وتدمير كل شيء، من أجل تصفية الحسابات من خصومها السياسيين، فالقوى التي اصطفت وراء انقلاب 25 جويلية، وكثير منها كان مناوئا في أصله لقيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية، لم يكن لها من همّ سوى تحريضه على ضرب خصومه السياسيين والتخلص منهم بأدوات الدولة، بعدما عجزوا هم عن منافستهم بقوة الصندوق، ولو كان ثمن ذلك حل البرلمان وإلغاء الدستور ونسف النظام الديمقراطي وكل المكتسبات التي أتت بها الثورة.

التونسيون بصدد اختبار الوصفة الشعبوية التي جرفت كثيرين في البداية، فيتبيّن لهم، يوما بعد آخر، عجزها عن اجتراح الحلول لمعالجة مشكلاتهم

بيد أن هذه الأطراف تدفع ثمن خياراتها الخاطئة والمدمّرة لنفسها وللجميع، وهي مضطرّة اليوم لتجرّع السم من كأس قيس سعيّد، بعدما اكتشفت أنها مجرّد حطبٍ في مشروعه الخاص لا غير، وهو الذي يصرّ على إلغاء المنظومة الحزبية وإخراج الجميع من المشهد السياسي، من أجل تنصيب نظام مجالسي، يقوم على تجميع السلطات على طريقة حكم الشعب التي انتهجها معمّر القذافي في ليبيا. والواضح اليوم أن التونسيين هم بصدد اختبار الوصفة الشعبوية التي جرفت كثيرين في البداية، فيتبيّن لهم، يوما بعد آخر، عجزها عن اجتراح الحلول لمعالجة مشكلاتهم التي اتكأ عليها الانقلاب لاختطاف السلطة برمتها، بل أكثر من ذلك يكتشفون الطابع المدمّر للخطاب الشعبوي، سواء بتوجهاته التقسيمية للمجتمع، أم على صعيد الحريات الفردية والجماعية أم على مستوى الاقتصاد والتنمية. صحيحٌ أن أوضاع البلد الاقتصادية لم تكن على ما يرام بسبب صعوبات التحوّل. ولكن في الحد الأدنى كانت حرية الناس مكفولة، فلا محاكمات عسكرية، ولا منع من السفر، ولا تعقّب للمدوّنين ولا اعتقالات عشوائية، في حين يواجه التونسيون اليوم خطر الإفلاس وانهيار القدرة الشرائية واتساع البطالة.
قبل قطاعٌ من التونسيين، بتأثير من التحريض الإعلامي وتواطؤ جزءٍ من النخبة، مقايضة الحرية بالتنمية، أي التفريط في مكتسب الحرية والديمقراطية الذي جاءت به الثورة من أجل معالجة مشكلاتهم الاجتماعية والمعيشية الضاغطة، فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام معادلةٍ أكثر قسوةً تقوم على خسارة الحرية مع غياب التنمية، أي إهدار المكتسبات السياسية للثورة زائد الإفلاس والبطالة وغياب التنمية.
طبعا، لا ينبغي الاطمئنان كثيرا إلى السرديات الليبرالية التي تصوّر النظام الديمقراطي بمثابة حتمية مطلقة، وكأنه صوت التاريخ الباطني، خصوصا وأننا نشهد اليوم عودةً متزايدةً للسلطويات السياسية بشكليها، القديم والجديد، إلا أن كل المعطيات تبيّن اليوم أن انقلاب قيس سعيّد هو بصدد استنزاف جرعات الأكسجين التي كان يتنفّس منها، بسبب حالة العزلة الخارجية، وانفضاض كل القوى السياسية من حوله، ثم انكماش قاعدته الشعبية، بالتزامن مع تفاقم الأزمات المالية والاجتماعية، خصوصا مع توجّه الرئيس إلى فتح جبهات صراعٍ مع الجميع واستعداء الأقربين والأبعدين على السواء.