محمّد بن عيسى وأصيلة مجدّداً

29 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:04 (توقيت القدس)
+ الخط -

استقبل رئيس تحرير صحيفة الميثاق الوطني (المغربية)، الناطقة باسم حزبٍ من اليمين المحافظ، التجمّع الوطني للأحرار، محمّد بن عيسى (1937 – 2025)، في الأول من يناير/ كانون الثاني 1982، الشاب الإسلامي الخارج من اعتقال ثلاثة شهور، عبد الإله بنكيران، وتسلّم منه بياناً تعلن فيه مجموعة من عناصر "الشبيية الإسلامية" انشقاقاً عن هذا التنظيم شبه السرّي، ليبدأوا تشكيل حركة سياسية، اندمجت في حزبٍ، صار اسمُه لاحقاً "العدالة والتنمية"، الإسلامي اللون، والذي حاز قبل سنوات الأكثرية في البرلمان ليترأس الحكومة بنكيران نفسه. بدا نشر ذلك البيان في صحيفةٍ في ذلك الزمن المغربي فعلاً شجاعاً واستثنائياً، أغضب بشدّة وزير الداخلية القوي في حينه، إدريس البصري، وكاد هذا الفعل أن يُنهي مسار بن عيسى الإعلامي والسياسي في بلده، لولا أن الملك الحسن الثاني وجد في النشر ذكاءً سياسياً، ولم يتوجّس من الأمر كما حال وزيره البصري... جاء على تلك الواقعة صاحبُنا وزير الاتصال المغربي السابق، مصطفى الخلفي (من "العدالة والتنمية")، في ورقته التي شارك بها في إحدى جلسات ندوة خيمة الإبداع، عن محمّد بن عيسى، ضمن موسم منتدى أصيلة الثقافي (الـ46) المقام حالياً في المدينة الوديعة شمال المغرب. ودلّل فيها المتحدّث ليس فقط على انفتاح الوزير والسفير والعمدة الراحل، وإنما أيضاً على ما سمّاها "تميّز خصوصية التجربة المغربية"، وقد عقد المنتدى في دورته العام الماضي ندوة عن "الإسلام السياسي"، استضافت الخلفي وزملاء له مع مغايرين لهم في وجهتهم الحادّة تجاه هذا التيار. ما عنى، عن حقّ، أن بن عيسى ظلّ رجل حوارٍ وإجماعٍ عام، وقد جمعته صداقة وثيقة مع نجوم اليسار في بلده، ومنهم رئيس الحكومة الأسبق عبد الرحمن اليوسفي. وفي الأول والأخير، كان رجل دولةٍ من طراز خاص، ومن قليلين في العالم العربي زاولوا الفعل السياسي في خدمة الثقافة وحضورها وفاعليّتها في المجتمع المحلي.
استرسل أكثر من 50 متحدّثاً عن مناقب بن عيسى في الجلسات السبع في ثلاثة أيام، وفي ما كان عليه سياسياً ودبلوماسياً ومثقّفاً وذوّاقة وناشطاً وعمدة منتخباً لبلدية أصيلة، مدينته الصغيرة مسقط رأسه، واستدعى كثيرون منهم في شهاداتٍ خاصةٍ تجاربهم وصداقاتهم مع الرجل. وليست موضوعة هذا التعليق أن يُضاف على ما قيل جديد، وإنما التساؤل عن ندرة السياسي المثقف، والنشط في مجتمعه، والدبلوماسي الواسع العلاقات والاتصالات، في فضاء العمل العام في العالم العربي. ذلك أنه شحيحٌ نموذج محمّد بن عيسى، في ثقافته الواسعة، وتفانيه في خدمة مدينته، من بوّابة الفنون والآداب، وإتقانه الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، مع وطنيّته في الدفاع عن قضايا بلده، فضلاً عن المدهش في شخصيته المحبّة للناس، والمطبوعة على التواضع، وإشاعة الألفة مع الجميع، بتلك الأريحيّة الرائقة، العذبة، على ما لمسه فيه صاحب هذه السطور في بضع جلساتٍ معه، وعلى ما وقع عليه في شخصيّته عموم أصدقائه ومعارفه ومن عملوا معه. ولا يُنسى فيه ذلك الحرص الفائق فيه على الاهتمام المعرفي والثقافي والفكري والسياسي بأفريقيا، وهو الذي تعلّم في الولايات المتحدة وعاش فيها، وأقام في الغرب شطراً من حياته.
وإذ تنكتب سطور هذه المقالة في أصيلة، يُجاز القول إن غياب محمّد بن عيسى عن هذه المدينة البديعة فادح، وقد اقترن اسمُه بها واقترنت به، وودّعها إلى دار الحقّ في نهاية فبراير/ شباط الماضي، وجاء تنظيم المنتدى في أول دوراته بعد هذا الرحيل ندوة كبرى، بإسهاماتٍ عربية وأجنبية عديدة، ومشاركاتٍ مغربيةٍ متنوّعة، عن صاحب السهم الأول في تأسيس هذه التظاهرة قبل 45 عاماً، وفاءً له، وتثميناً لجليل إنجازاته، وفي الوقت نفسه، دعماً للمنتدى برئاسة الأمين العام الجديد لمؤسّسة منتدى أصيلة، حاتم البطيوي، ليبقى مناسبة تداولٍ بين أهل الفكر والإعلام والثقافة والسياسة والدبلوماسية، العرب والأجانب. ولمّا كان من أهم شمائل بن عيسى أنه رجل حوار، منذ ما قبل واقعة نشر بيان الشبيبة أصحاب بنكيران في زمن مضى وصولاً إلى أيامه الأخيرة، فإننا على ثقةٍ باقيةٍ بأن منتدى أصيلة سيُحافظ على إيقاعه منصّة تداول وحوار، وهذا رهانٌ واختبار.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.