مجازر الأخ الكبير في سورية

مجازر الأخ الكبير في سورية

12 اغسطس 2022
+ الخط -

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الحاجة إلى منع "الإبادة الجماعية" ومعاقبة مرتكبيها موضع اهتمام المجتمع الدولي. مع هذا، حدثت فظائع هائلة. ومثير للاهتمام أنّ المجموعات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان نفسها تميل إلى عدم التوسّع في استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية"، لأنّ تعريفها مقيّد للغاية، كما أوضح كينيث روث، المدير التنفيذي لـمنظمة هيومن رايتس ووتش غير الحكومية. على سبيل المثال، يُمكن وصف المذبحة التي تعرّض لها أفراد قبيلة التوتسي في رواندا عام 1994 إلى حدّ كبير بالإبادة الجماعية، إلا أنّ المصطلح لا يناسب ما يُعرف بـ"العام صفر" في كمبوديا، ليس لأنّ عمليات القتل كانت قليلة أو أقلّ وحشية، ولكن لأنّ معظم من قُتِلَ في كمبوديا لم يُقْتَل بسبب عرقه، ولكن بسبب انتماءاته السياسية أو الاجتماعية. أيضاً ورغم أنّ محكمة العدل الدولية أقرّت بوقوع جرائم إبادة ضد مسلمي البوسنة والهرسك بين 1992 و1995، حيث قتل الصرب ما يزيد على مائتي ألف مسلم بوسني، فإنّ المحكمة برأت دولة صربيا من تلك الجرائم!.

هذا يأخذنا بالضرورة إلى الحديث عن سورية المنكوبة، والتي يبدو مستقبلها غامضاً جداً، بعدما تفوّقت في أمر واحد فقط، في أنها الدولة الأكبر بعدد اللاجئين، والذي فاق عدد اللاجئين الفلسطينيين بعد قيام دولة إسرائيل. بطبيعة الحال، نتكلم عن النظام السوري الذي لم يعد نظام استبداد وإجرام فحسب، بل نظام إبادةٍ لا يمكن علاجه إلا بالاستئصال. تؤكّد ذلك ردّات فعله العنيفة تجاه المتظاهرين في مختلف أنحاء البلاد، والتي نتجت عنها انتهاكاتٌ خطيرة، شملت استهداف المدنيين الأبرياء، والقتل العمد، وتدمير البيوت، وحصار مدن سورية عديدة، وهو ما يمكن أن يمثل "جريمة إبادة" بالتعريف القانوني الدولي، والذي حرّمته "اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها" الصادرة عام 1948. بالتساوق مع ما سبق، عرضت قناة فرنسية، وبشكل افتراضي، ساخر وتهكمي، مقطع فيديو لمستكشفين عبر الزمن في المستقبل عام 2046، لتظهر لهم دولة كانت تُدعى سورية، وبعد بحثٍ طويل فيها، وجدوا شخصاً واحداً حياً بين أنقاضها، معرّفاً عن نفسه بأنه بشار الأسد، ليخبرهم بالفرنسية و"بلكنة روسية"، إنه قتل 23 مليون سوري، ولم يبقَ غيره.

نعم... كلّ شيء يختلف في هذه البقعة من العالم، مع حضورِ القمع تعبيرا سرمديا عن إخفاقٍ غير قابل للانتهاء، لجهة إجبار الأسد على التنازل عن شيء من سلطته وصلاحياته، لإنجاز الصياغة الدستورية والقانونية والمؤسّسية لعقدٍ جديد، يجعل من الرعايا مواطنين، ومن المجتمع مصدر السلطة ومُعين شرعيتها. ففي لحظات مجتمعية فارقة، اعترف قادة "عتاة" بمسؤوليتهم عن الأزمات والاختلالات التى ألحقها حكمهم بالمواطن والمجتمع والدولة، وأقرّوا (جزئياً على الأقل) بضرورة التغيير، مثل ما حاول الرئيس جمال عبد الناصر، عقب الهزيمة العسكرية في 1967، إبعاد المؤسسة العسكرية عن التورّط في شؤون الحكم والسياسة، ودفعها باتجاه قبول شيءٍ من مبادئ الرقابة والمساءلة والمحاسبة.

صمد ديكتاتور سورية كلّ هذه المدة، ليس بسبب سيكولوجيا الطاعة التي فُطم عليها الشعب السوري، إنما لأنّ المجتمع الدولي سمح بذلك

تأسيساً لما تقدّم، ليس سرّاً أنّ الأسد الابن ليس خلاصة أو تجسيداً لنظام سياسي تحتل فيه الإرادة التمثيلية للأمة الأساس المادي والفعلي للسلطة، فحكمه الذي يتميّز بالقبضة الحديدية هو، قطعاً، المعادل المادي للاستبداد، يستمدّ روحه وغائيته من التجربة التاريخية للأب الراحل. طاغية أدخل البلاد زمان اليأس، إلى درجة بات فيه السوريون يهلّلون للتغيير، ولو جاء على ظهر دبابة أميركية، بعدما نجح في سحق شعبه كما يشاء، حيث لا رادع قانونيا أو أخلاقيا أو سياسيا من أيّ نوع. صحيحٌ أنّ مجزرة التضامن ليست الأولى في عهد الطاغية الابن، إلا أنها الأكثر وضوحاً ويقيناً في أنّ الإبادة ليست تصرّفات فردية من نافذين فيه، والتي أعادت إلى الأذهان مذابح حماة وحلب التي ارتكبها مؤسّس نظام الإبادة، حافظ الأسد، ودفن صورها قبل دفن ضحاياها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وهكذا، يوماً بعد يوم، يتكشف حجم الفظائع والانتهاكات الجسيمة وجرائم الإبادة بحقّ السوريين، سواءٌ عبر توثيقات لجان التحقيق، أو عبر شهادة شهود، منهم حفّار القبور، ومن قبله قيصر وغيرهما.

لنكن أكثر واقعية، ونجزم أنّ "الإبادة الجماعية" في سورية، بوصفها سلوكا وفعلا قصديا، بدأت حقيقة منذ خمسة عقود، عندما صنع نظام الأسد من نفسه بطلاً مخلصاً، وعلى "قطيع" الشعب طاعته والامتثال لإرادته. عندما جعل من أجهزة قمعه الأدوات الوحيدة لحماية الأمن الوطني، ومن الجرائم ضد الإنسانية والمظالم والانتهاكات عنواناً للحرب على الإرهاب. عندما حوّل "رافضي الصمت" إلى صنوفٍ من المتآمرين والخونة والعملاء والخارجين على القانون. يبرّر أن يُنزل بهم "العقاب الجماعي" لكي تُطهّر البلاد من شرورهم المزعومة. والنتيجة الوحيدة لذلك كله أنّ جمهورية الخوف التي سعى إلى تأسيسها انقلبت إلى جمهورية خوف خائفة، وتحوّل الحاكم نفسه من مدّعي قدرات بطولية وخلاصية وإنقاذية إلى مذعورٍ مصاب ببارانويا الشك والاشتباه في عموم المجتمع، فاختزلت مؤسسات الدولة وأجهزتها في مخابرات "الأخ الكبير" التي تتنصت وتتعقب وتهدّد وتقمع وتعاقب.

يوماً بعد يوم، يتكشف حجم الفظائع والانتهاكات الجسيمة وجرائم الإبادة بحقّ السوريين

في نظر علي عزت بيغوفيتش، أول رئيس جمهوري لجمهورية البوسنة والهرسك، "لا توجد خسارة لا يكون الشعب مسؤولاً عنها! ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء، لأنك عندما تكون ضعيفاً فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكون ضعيفاً في التاريخ هو عمل لاأخلاقي". هذا يدفعنا بالضرورة إلى طرح السؤال: لماذا لا يزال الأسد في السلطة رغم هذا كله؟ ترى صحيفة الغارديان أن لهذا السؤال إجابات عديدة، ولكن يمكن تلخيصها في واحدة: لقد صمد ديكتاتور سورية كلّ هذه المدة، ليس بسبب سيكولوجيا الطاعة التي فُطم عليها الشعب السوري، إنما لأنّ المجتمع الدولي سمح بذلك... وفي هذا الوقت المستقطع من الإهمال الدولي، أعادت بنية الاستبداد تركيب نفسها، وإخراج رؤوس جديدة لها بالخطاب نفسه الذي كان قبل الربيع العربي. فخطاب "أنا أو الفوضى" هو نفسُه المرادف لخطاب "سورية الأسد" قبل 2011. الخطاب الذي برّر قتل الأبرياء بدعوى "مواجهة العنف المحتمل ومحاربة الإرهاب". وفي كلا الحالتين، يعتمد المستبد على العنف والمذابح، كي يحمي سلطته، ويوطّد أركان نظامه، لتستمر متوالية العنف إلى ما لا نهاية، فالمسؤولية عائمة وسائبة، وتُنسب لشيء فضفاض، مثل "محاربة الإرهاب" كما في أيّ نظام مستبِدّ. لكن هل هذه المسؤولية العائمة كافية لارتكاب مذابح جماعية بدون أيّ رحمة؟ نعم، لقد أثبت التاريخ الدموي أنها كافية، ففي أفغانستان حيث قُتل قرابة مليون إنسان في جرائم لا يمكن إلا أن تُوصف بجرائم إبادة من القوات الأميركية وقوات حلف الناتو، كان العالم يسدّ عينيه ويصمّ أذنيه عما يرى ويسمع! تماماً كما رفض الاستماع إلى صيحات الأبرياء في سورية، بينما جيش من المرتزقة يقومون بواجبهم تجاه سيّدهم كعبيد، لا يفكّرون لحظة في ما يفعلون، فيقترفون أسوأ جرائم الحرب ضد المدنيين. لا يفرّقون بين شيخ أو امرأة أو طفل. القتل عندهم رحمة، والتعذيب فنٌ ومتعة، وتقطيع الأطراف وإحداث العاهات المستديمة جزءٌ من طقوس الولاء والطاعة المحبّبة.