متلازمة عُطيل

13 يناير 2025

(أحمد ناباز)

+ الخط -

حين افترى ياغو حامل الراية في الجيش، ورمز الشرّ في مسرحية شكسبير "عُطيل"، على ديدمونة، واتهمها زوراً بما ليس فيها، قال زوجها عطيل إن زوجته امرأة فاضلة، وما يصدُر عنها من أفعال فاضل أيضاً. كانت هذه الإجابة التلقائية منسجمة مع الشخصية التي قدّمها شكسبير بسيطة، طيّبة، شديدة الثقة بالآخرين، إذ وضع ثقته المطلقة في ياغو الشرير الحقود، الذي حاك مؤامرةً للإيقاع بقائده، وزرع بذور الشكّ في قلبه، وسرعان ما تحوّل عطيل من قائد عسكري محنّك قاتلاً مجرماً بسبب هيجان عاطفته، ووقوعه أسير الشكّ والارتياب في سلوك زوجته المخلصة البريئة، ما أدّى به إلى قتلها خنقاً في فراشها.
من هنا اصطلح على تسمية الغيرة المَرضية، التي تصنّف اضطراباً نفسياً حادّاً بمتلازمة عطيل، ومن أهم أعراضها الغيرة الوسواسية من كلّ شخص ومن كلّ شيء وعدم التصديق، والتشكيك الدائم غير المبرّر بالشريك المتّهم دائماً بالخيانة، ورهاب الانفصال عن الحبيب، والمبالغة في ردّات الفعل، والارتياب واختلاق سيناريوهات غير منطقية، والعدوانية المفرطة والسلوك العنيف، والميل إلى التملّك والاستحواذ.
تحفل سجلّات المحاكم الجنائية بجرائم قتل بشعة كان دافعها الوحيد الغيرة المَرضية، إذ يرفض المريض فكرة تخلّي الشريك العاطفي عنه فيفضّله ميتاً، رغم مشاعر الحُبّ الجارفة التي تعتمل في قلبه، ويضحّي بمستقبله تحت سورة الغضب، ويقضي ما تبقّى من حياته خلف القضبان راضياً غير نادم، متوهّماً أنه امتلك الحبيب إلى الأبد، غير مدرك أنه خسر كلّ شيء. ولعلّ فقدان الثقة بالذات وانعدام الشعور بالأمان وعدم الاكتفاء والقناعة والإحساس بالرفض وعدم الاستحقاق، من أكثر أسباب الإصابة بالغيرة المَرضية أهمية، غيرة تحيل حياة صاحبها والمحيطين به محضَ جحيم.
ولا تقتصر مشاعر الغيرة المَرضية على العلاقات العاطفية، بل قد نلاحظها بسهولة بين الإخوة، خصوصاً إذا كان هناك تمييز في المعاملة من الأهل الذين قد يفضّلون أحد الأبناء على الآخر، ما يُؤدّي به إلى الغضب، والحقد الدفين، والإحساس بالغبن والرغبة في إلحاق الأذى بالأخ الذي يحظى بمعاملة خاصّة. ولا تنجو علاقة الصداقة كذلك من عنصر الغيرة الدفينة، إذا ما اتصف أحد الأصدقاء بمزايا قوة الشخصية وجمال الحضور واحترام المجموع، ما يجعل الشخص الغيور يشعر بالضآلة والصغر وعدم الارتياح. وتُعدّ أجواء العمل التي تتسم عادةً بالتنافس مناخاً ملائماً لتنامي مشاعر الغيرة المَرضية بين زملاء العمل. الموظّف الفاشل الكسول هو أكثر النماذج غيرةً وحقداً على زميله الناجح المبادر المُبتكر الحائز على إعجاب رؤسائه ومحبّة مرؤوسيه، وعوضاً عن العمل على تطوير نفسه، والاحتذاء بزميله الناجح، يعمد إلى الكيد له ومحاولة تشويهه، والتقليل من أهمية منجزه.
يذهب بعضهم من أصحاب المنطق الذكوري الاستعلائي إلى أن الغيرة صفة مقتصرة على النساء لأنهن، بحسب هؤلاء، مخلوقات عاطفيات ضعيفات هشّات سريعات التأثّر شديدات الغيرة، وذلك ما نفته الدراسات والإحصاءات التي تؤكّد أن الرجال بحكم طبيعتهم التنافسية المتملّكة الاستحواذية أكثر عرضةً للتأثّر بمشاعر الغيرة. ولكي لا نقع في ادّعاء المثالية علينا أن نقرّ بأن الغيرة مشاعر طفولية تظلّ ملازمةً كلّاً منا، وأحيانا تكون دافعاً للتميّز والإنجاز والتطوّر إذا ظلّت في حدودها الطبيعية، الخطورة تكمن في تحوّلها إلى درجة مَرضية تُخرِج أسوأ ما فينا، وتحيلنا كائناتٍ انفعالية فاقدة التوازن النفسي، غاضبةً حقودةً، تحرّكنا مشاعرُ سلبية من كراهية وحسد ودونية، عاجزة عن الحُبّ والامتنان والتعاطف والتضامن، ومشاركة الآخرين أفراحهم ومنجزاتهم، من دون أدنى إحساس بالتهديد، وهي أقصى درجات التوازن النفسي التي نسعى إلى بلوغها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.