متلازمة الورقة البيضاء

متلازمة الورقة البيضاء

09 يونيو 2022

(عبد الكريم مجدل بك)

+ الخط -

لماذا يمتنع الناس عن كتابة ما يشعرون به؟ لماذا يشعرون بالشك والقلق والخوف والتردّد عندما يجدون أنفسهم وجها لوجه أمام الورقة البيضاء، أو لوحة المفاتيح في دورات قلق الكتابة التي صمّمتها لمواجهة هذه الحالات. قابلت كثيرين يرغبون بالكتابة والتعبير عمّا في دواخلهم من مشاعر وعواطف وأحاسيس، ويتخيّلون الكلمات في رؤوسهم، بل يتصوّرونها جملا وعبارات كاملة، لكنهم يعجزون عن تفريغها على الورق، عندما تحين لحظة الكتابة؟

أخبرني أحدهم أنه يتخيّل الورقة البيضاء بهيئة وحشٍ كاسر، يتربّص بكلماته، وينتظرها لكي يلتهمها بمجرّد كتابتها. وأخبرني آخر بأنه يشعر بالخوف الحقيقي، عندما تحين هذه اللحظة، حتى أن يده تُصاب بالرجفة، لا يستطيع السيطرة عليها، كلما حانت تلك اللحظة. وشكا لي ثالث من الغثيان الذي يصيبه كلما كلّف بمهمة كتابة حرّة من رئيسه في العمل. وكثير من هذه القصص تواجهني في كل دورة كإجابات عن سؤالي للمتدرّبين عن ما يدفعهم لأخذ مثل تلك الدورات.

شخصيا، لم أكن مقتنعةً بدورات من هذا النوع قبل أن أتلمس الحاجة إليها لدى كثيرين حولي، فهل الكتابة فعلا مخيفة إلى هذا الحد أم إنه الخوف من تعرية النفس وكشف الأسرار التي لا نريد أن يراها القرّاء، ونعتقد أننا لن نستطيع كبح شهوتنا في البوح والإدلاء بها كلما اختلينا بتلك الورقة البيضاء؟ أم لعله شعورنا بالعجز عن الكتابة الإبداعية، والوصول إلى مستويات الكتّاب الكبار الذين نقرأ لهم كتبهم ورواياتهم بمتعة كبيرة، ما يجعلنا غير مؤمنين بقدراتنا على إنتاج ما يوازي تلك الكتابات، فنصاب بمتلازمة الورقة البيضاء كما يسميها بعضهم أو بحبسة الكتابة، كما عرفت وفقا للمصطلح العربي القديم.

كل هذه الأسباب وغيرها تندرج في قائمةٍ تطول، يواجهها العاجزون عن الكتابة، وعليهم التفكير بالبحث عن حلولٍ لها كل على حدة، وإذا كانت متلازمة الورقة البيضاء أو حبسة الكتابة، يشعر بها غالبا الكتاب الشباب غير المعتادين على الكتابة الدائمة، فإن هذا لا يعني أن الكتاب الكبار بمنأى عنها، فعلى سبيل المثال، نجد أن رواية "فئران ورجال" للأميركي، جورج شتاينبك، أخذت منه أكثر من عشر سنوات، بسبب معاناته من حبسة الكاتب. أما الكاتب هنري روث فقد أصيب بالحبسة مدة تزيد على 60 عامًا مُتواصلة، من العام 1906 حتى 1966 لم يكتب فيها أي كتاب! وهذه فترة قياسية بالنسبة لمتلازمة حبسة الكاتب. وظل نجيب محفوظ خمس سنوات عقب ثلاثيته لم يكتب شيئاً، وكان يعاني معاناة شديدة في أثناء ذلك. وكان الشاعر الإنكليزي تيلور كولردج يبلغ الخمسة والعشرين عاما، عندما توقف عن الكتابة بكل أشكالها، وفي مقدمتها كتابة الشعر. وعندما سألوه عن السبب، قال، بمنتهى الأسى والألم: هل يستطيع رجلٌ مشلولٌ بالكامل فرك يديه؟ كان يرى أن حبسة الكاتب شللٌ يُصاب به الكاتب، فلا يعود قادرا على الكتابة. وعانى الروائي، ستيفن كينغ، من تلك القفلة أو الحبسة في أثناء كتابته رواية "الطاحونة الخضراء". وقد عبر ستيفن كينغ عن تلك المعاناة في قصته النافذة السرّية (Secret Window)، والتي تحولت إلى فيلم يتناول حكاية كاتبٍ يحاول الكتابة ويفشل. وفي فيلم "شكسبير عاشقا"، أصابت شكسبير حبسة الكتابة، وقد تخلّص منها بعد لقاء حميم مع حبيبته. أما أرنست هيمنغواي، عندما سئل عن أكثر الصعوبات التي واجهها في حياته، فقال: تصارعت مع الثيران في أسبانيا، واصطدت وحوشا وحيوانات كثيرة مفترسة في غابات أفريقيا، ونجوت من رصاصة في الحرب في أثناء عملي مراسلا حربيا.. أما أكبر خطر واجهني فهو الورقة البيضاء!

ويبقى الحديث عن معضلة تلك الورقة مفتوحا لاقتراحات أخرى.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.