متغيّرات المنطقة وآفاق التفاهم والنهوض

29 ابريل 2025

(صفوان ميلاد)

+ الخط -

هناك مجموعة من التمنّيات تظلّ مجرّد تمنّيات تنتمي إلى عالم الأحلام غالباً، لا تتحقّق. وهناك مجموعة أخرى في البرزخ الفاصل بين الحلم والواقع، تتغيّر مواقعها تبعاً لتطوّرات الظروف والمتحوّلات على المستويَين الموضوعي والذاتي، وتفاعل ذلك كلّه مع الرؤى والاحتياجات الجديدة للقوى المؤثّرة، المُساهِمة في عملية بلورة معالم اللوحة الجديدة التي تتشكّل محلّياً وإقليمياً ودولياً.
قبل سنوات، كنا نحلم بإمكانية حصول توافق إقليمي بين القوى الفاعلة في منطقتنا، يضع حدّاً للصراعات والحروب والتوتّرات، ويفتح الآفاق أمام تعاون بنّاء بين القوى المعنية على أساس المصالح المشتركة، والرغبة في تمكين الجيل الشاب من أداء دوره لصالح استقرار المنطقة وازدهار مجتمعاتها ودولها على مختلف المستويات، وذلك كلّه، لو تحقّق، لمهّد الطريق بصورة فعلية أمام تعاونٍ مثمرٍ بين سائر دول المنطقة. واليوم، يبدو أن هذه التمنّيات، القابلة للتحقّق (إذا صحّ التعبير) باتت أقرب إلى الواقع منها إلى عالم الأحلام.

أدرك النظام الإيراني أن المعطيات والمعادلات قد تغيّرت، وما أقنعه بذلك أكثر الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها إيران نتيجة السياسات الخاطئة التي اتبعها النظام

هذا رغم التعقيدات والمخاطر والتحدّيات الموجودة كلّها، سواء بالنسبة إلى ما يحصل في قطاع غزّة من عدوان شرس على المدنيين الغزّيين من إسرائيل، بذريعة ضرورة التخلّص من حركة حماس، أو بالنسبة إلى تحرّكات بقايا محور المقاومة، والقوى القريبة منها في دول المنطقة. ومع ذلك، ما زالت الطريق طويلةً بين هذه التمنّيات والعالم المُعاش، وما زالت هناك مفاجآت ومخاطر كثيرة، خاصّة أن القوى الإقليمية ليست وحدها تتحكّم بالمسارات، أو بالفصل في عملية ضبط التوافقات، وإجراء المراجعات. هذا بالإضافة إلى المنافسات والصراعات والتناحرات الداخلية البينية، سواء بين مراكز القوى والأجنحة ضمن كلّ قوة إقليمية، وهي الصراعات التي غالباً ما تنتهي بصيغة من صيغ الاستقواء على المخالفين عبر الأجهزة الأمنية، أو من طريق تفاهمات مع القوى الخارجية، وبدعم منها.
مناسبة هذا الحديث، ما جرى (ويجري) من متغيّرات ومستجدات في الوضعَين الإقليمي والدولي خلال العقدَين الماضيَين على مستوى الإقليم، وهي المتغيّرات التي شهدتها الأنظمة الجمهورية العربية في ظلّ موجتَي "الربيع العربي" الأولى والثانية، وقبل ذلك الحرب بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وإسرائيل و"حماس" في غزّة، إلى جانب الدور الإقليمي المتعاظم لإيران، وتدخّلها السافر في شؤون دول المنطقة ومجتمعاتها، والتغطية على سياساتها التوسّعية عبر اعتماد تكتيك استغلال المذهب لصالح المشاريع السياسية، وادّعاء نصرة المظلومين من الشيعة وحماية مراقدهم، ومحاولة الهيمنة على المرجعيات الشيعية الوطنية في المنطقة، لتقدّم نفسها المرجعية الشيعية الرئيسة (إن لم نقل الوحيدة) على المستوى العالمي. ولبلوغ ذلك، لجأ النظام الإيراني إلى سياسات إحداث تغييرات بنيوية في النسيج المجتمعي لدول المنطقة التي هيمنت عليها، بالإضافة إلى مساعيه الرامية إلى التمدّد في مختلف المساحات بحجج وذرائع شتى، بينما الهدف الأساس بالنسبة إلى النظام المعني كان دائماً ضبط الأمور بناءً على حنين إمبراطوري النزعة، يتمثّل في محاولات السيطرة على الطرق الاستراتيجية، وضمان المعابر الحدودية، والمحافظة على خطوط الإمداد من إيران إلى لبنان عبر العراق وسورية. هذا إلى جانب استغلال الأوضاع والتباينات في اليمن.
وبعد الضربة القوية التي تلقتها "حماس" في قطاع غزّة، ودفع ثمنها في المقام الأول المدنيون الغزّيون الذين كانوا ضحية تضارب الأجندات المحلّية والإقليمية، وحتى الدولية، وفي أجواء الحرب العدوانية الشرسة المستمرّة التي أعلنها نتنياهو على غزّة بحجّة القضاء على "حماس"، ومن ثمّ الضربات المميتة التي تلقاها حزب الله في لبنان؛ وسقوط سلطة آل الأسد في سورية، وتركيز القصف الأميركي على الحوثيين في اليمن، والتهديدات الإسرائيلية، وحتى الأميركية، التي طاولت فصائل الحشد التابعة لإيران في العراق، والضغوط على الحكومة العراقية من أجل تحجيم مدى تأثير هذه الفصائل في المشهد السياسي العراقي. وما يُستشفّ من تصريحات المسؤولين العراقيين وتحرّكاتهم أن تلك التهديدات جدّية، وليست مجرّد كلام عابر مكرّر.

هل يمكن التحدّث عن إمكانية عقد مؤتمر إقليمي عام، يكون إطاراً لتوافق بين دول المنطقة وشعوبها؟

الملاحظ في هذا السياق أن النظام الإيراني أدرك أن المعطيات والمعادلات قد تغيّرت، وما أقنعه بذلك أكثر تمثّل في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها إيران نتيجة السياسات الخاطئة التي اتبعها النظام المعني في مدى أكثر من 40 عاماً، وهي السياسات التي تسبّبت باستنزاف الموارد الإيرانية في مشاريع توسّعية مغلّفة بشعارات "تصدير الثورة"، و"مناصرة المظلومين"، و"تحرير القدس"، و"معاداة الشيطان الأكبر". هذا، إلى جانب الصراعات والخلافات البينية بين أجنحة الحكم نفسها، والاصطدام المستمرّ بين سياسات النظام وممارساته، وتطلّعات الشعب الإيراني بمكوناته كلّها، ورغبة هذا الشعب في حياة حرّة كريمة ترتقي إلى مستوى تضحيات وطموحات وقدرات الإيرانيين.
في يومنا الراهن، هناك حديث حول إمكانية الوصول إلى اتفاقيات مستقرّة مع الجانب الأميركي على صعيد الملفّ النووي، ورفع العقوبات، أو على الأقلّ التخفيف منها، وحتى البحث في إمكانية الاستثمارات الأميركية في إيران. هذا بالإضافة إلى الحديث عن بوادر تحسّن العلاقات بين السعودية وإيران، أو على الأقلّ استعداد الطرفَين لعقد التفاهمات، والتركيز في المصالح المشتركة، وإرجاء التباينات، أو على الأقلّ تعليقها، بشأن القضايا الخلافية، على أمل التوافق عليها مستقبلاً. والسعودية اليوم (كما نتابع ونرى) تقوم بدور نشط فاعل على مختلف المستويات، العربية بصورة عامّة، والإسلامية والإقليمية والدولية. وهي بسياستها المعتدلة الاستيعابية تحاول باستمرار، وبالتعاون مع دول منظّمة التعاون الخليجي، تهدئة الأجواء عبر طرح المبادرات الواقعية التي تراعي مختلف الحساسيات. وإلى جانب السعودية وإيران، هناك تركيا، القوة الإقليمية المحورية بحكم تاريخها وموقعها وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وغير ذلك من الأسباب. هذا فضلاً عن تاريخ حافل من المنافسات العلنية والمضمرة مع إيران سواء في آسيا الوسطى أو في العراق وسورية، أو ربّما في مناطق أخرى.
وفي سياق الحديث عن القوى الإقليمية الكبرى المؤثّرة في منطقتنا، لا يمكن تجاهل إسرائيل التي استفادت من التدخّلات الإيرانية في شؤون مجتمعات المنطقة ودولها، من جهة دفع بعض دولها، بالتنسيق مع الأميركان في عهد ترامب الأول، نحو اتفاقيات تطبيع ثنائية معها، لتتمكّن من التهرّب من استحقاق التعامل الجدّي مع المبادرة العربية الشهيرة، مبادرة العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز التي التزمها مؤتمر القمّة العربية في بيروت عام 2002. وعلينا ألا ننسى ضمن السياق نفسه، أهمية مصر ودورها بوصفها من القوى الأساسية في المنطقة، رغم المصاعب التي تعيشها على الصعيد الداخلي من جهة الأوضاع الاقتصادية. والسؤال هنا بخصوص العلاقات بين هذه القوى، وغيرها من دول إقليمنا: هل ستؤثّر المتغيّرات التي تمت، أو المتوقّع أن تحصل في المستقبل المنظور، بالتخفيف من حدّة التوتّرات في المنطقة، وتساهم بدفع دولها نحو إمكانية الحديث عن مشاريع اقتصادية تنموية مشتركة بينها، تكون فاتحةً لإنهاء عهد طويل من الخصومات والحروب التي بدّدت كثيراً من الموارد الاقتصادية والبشرية، وتسبّبت بإنهاك المنطقة في جميع الميادين؟

تحتفظ منطقتنا بقيمتها الجيوسياسية والاقتصادية، ويمكن أن تنهض إذا توافرت لدولها إدارت عادلة أولويتها مستقبل شعوبها

وبالتكامل مع هذا السؤال، ربّما يكون من المناسب طرح السؤال التالي أيضاً: هل يمكن التحدّث عن إمكانية عقد مؤتمر إقليمي عام، يكون إطاراً لتوافق بين دول المنطقة وشعوبها؟ مؤتمر تشارك فيه أيضاً القوى الدولية المؤثّرة من أجل الوصول إلى تفاهمات وتوافقات بشأن حلّ المشكلات الموجودة، واحترام تطلّعات شعوب المنطقة، ورغبتها في حياة حرة آمنة كريمة مستقرّة. ويُشار في هذا المجال على وجه التحديد إلى ضرورة مساعدة السوريين للنهوض بمجتمعهم ووطنهم والوصول إلى برّ الأمان؛ والعمل من أجل حلّ عادل للقضية الفلسطينية على أساس "حلّ الدولتّين"، وكذلك حلّ عادل للقضية الكردية في دول المنطقة على أساس رفع الظلم والاعتراف بالحقوق ضمن إطار المحافظة على الوحدة الوطنية. هل سنصل إلى هذه المرحلة قريباً، أو على الأقلّ هل توجد بوادر أو مؤشّرات توحي بإمكانية انتظار حدوث مثل هذا الأمر مستقبلاً؟... هو أمر إن حدث، فسيفتح المجال أمام شعوب المنطقة التي انهكتها الصراعات والحروب لتتنفس بحرّية، ولتستعيد قسطاً ولو محدوداً من حيويتها. وربّما يفتح هذا الأمر المجال أمام إمكانية التحدّث عن اتحاد أو تجمّع اقتصادي يكون على قربٍ من (وتفاعلٍ مع) الاتحاد الأوروبي، ومنفتح على سائر القوى الدولية المستعدّة للدخول في شراكات اقتصادية استراتيجية على أساس المصالح المتبادلة.
ما زالت منطقتنا تحتفظ بقيمتها الجيوسياسية والاقتصادية، ولها دروها اللافت في ميدان تمازج الحضارات والثقافات، وهي معروفة بتاريخها الطويل في ميدان التعايش بين الأديان والمذاهب والإثنيات، وفي مقدورها أن تنهض بفضل مواردها البشرية والمادّية، شرط أن تحظى دولها بإدارت عادلة نزيهة بعيدة النظر، إدارت تضع مستقبل شعوبها وأجيالها المقبلة في مقدّمة أولوياتها.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا