مبادئ أساسية في تقويم التراث وإشكالات توظيفه
(العربي الشرقاوي)
موضوع التقييم والتقويم للتراث من أهم الموضوعات التي تستبطن في داخلها جملةً من الأمور التي ترتبط بعملية التقويم، وأهمها حقيقة التراث والهدف من التعامل معه؛ الموقف من التراث سلبياً كان أم إيجابياً؛ معايير التقويم وامتدادها إلى العناصر كافّة المتعلقة بالتراث، سواء تعلق الأمر بالموضوع وتقويم موضوعاته، أو بتقويم الأهداف التي من أجلها نتعامل مع التراث، أو بتقويم المناهج للتعامل مع التراث، أو بتقويم للمصادر التراثية الممتدة والمتنوعة. وتقويم التراث عملية مركّبة، أو إن شئت الدقّة؛ جملة من عمليات. فمن الضروري وصف الخرائط المختلفة المتعلّقة به مثل خريطة المصادر الممتدّة المتعلّقة به في الإجمال، والخرائط التخصّصية ضمن الحقول المعرفية المختلفة، وخرائط المواقف حيال التراث جملةً، ثمّ تحريك عناصر منهجية صوب القراءات الإيجابية للتراث، لا الانتقائية أو السلبية، ثمّ بناء شبكة المعايير المختلفة التي يقوّم على أساسها التراث وحركته، والإمكانات والقيمة الذاتية الكامنة في بنيته، مع الأخذ في الاعتبار تصنيفاته ضمن المجالات المعرفية المختلفة، وما يرتبط بذلك من السمات العامّة للتراث، والسمات الخاصّة التي تتعلّق بفرع منه، ثمّ ارتباط عملية التقويم بعمليات التوظيف والتفعيل والتشغيل في إطار محاولات إجرائية ذات آليات واضحة تمكّن الباحث من توصيل قيمة التراث والتواصل معها.
ليس التراث نصوصاً نجري فيها (وعليها) تمارين ذهنية، بل يتحرّى قابليات أمّة ما للنهوض والتجدّد
التقويم أو التكييف للتراث حالة منفتحة لامتداد فاعليات التراث ضمن المجالات المعرفية المختلفة، وضمن تنوّع المجالات الحضارية الممتدّة. ومن هنا، يبدو أن التعلّق بالمدخل الذي تتكامل فيه ومعه عناصر متعدّدة، تتعلّق بالضرورة المنهجية، وبالضرورة الواقعية، وبوظيفة التراث في بناء وعمارة الحضارة، والاعتبارات الخاصّة بتعريف التراث بأنه اجتهاد وجهد بشري يتفاعل مع المرجعية المتمثّلة في الوحي، ضمن منظور حضاري يحفظ عناصر ذاكرة الأمّة، ويوظّف عناصرها الإيجابية ويراجع عناصرها السالبة، من دون نبذ مطلق أو تجنٍ مستهتر، ومن دون مواقف تبسيطية ومختزلة من التبنّي أو التجنّي. كما يجب أن نلحظ هؤلاء الذين ينظرون إلى التراث نظرةَ استخفاف رغم التزامهم الديني، تكمن نظرتهم في موقف مفاده أن التراث يمثّل حجباً للتعامل المباشر مع القرآن والسُّنة، والوحي إجمالاً، ومن ثمّ قد يُستغل هذا الرأي بإلغاء التراث جملةً بجرّة قلم، رغم أنه تراث حضاري ممتدّ يجمع بين الغثّ والسمين، وهو ما يستدعي عناصر تقويم منهجي، إلا أن هؤلاء كمن ألقى كلّ ما يملك من مال لأنه وجد فيها درهماً زائفاً.
ناهيك في هذا السياق عن القطيعة المعرفية الجزئية، التي تتتبّع الخطابات الهجائية الشائعة للمذاهب من بعضها بعضاً، وإطلاق الأحكام والتعصّب للمذهب، فهذا يستبعد التراث الصوفي، وذاك يستبعد التراث المعتزلي، وآخر يستبعد التراث الشيعي، وهذا يستبعد الأشعري ... في إطار نفي متبادل، يجعلنا نصل في النهاية إلى مباراة صفرية لا يكسب فيها أحد، ولا يتبقّى من التراث بعد ذلك إلا الحطام الذي تخلّف من معارك تراثية طاحنة استخدمت فيها أكثر الأسلحة فتكاً، وفي سياق لغة اتهامية بالضلال والابتداع والكفر والعياذ بالله. وهنا يتدخّل المرجفون، يقتنصون ما تبقّى منه، يهيلون عليه التراب، ويؤكّدون أن التراث أحد أهم أسباب الكوارث المتتالية، وذلك كلّه يسهم في بناء موقف سلبي من التراث، وإحداث قطيعة نفسية معه، وما يعقب ذلك من قطيعة معرفية، والنماذج في هذا السياق نماذج متعدّدة كاشفة وفاضحة تغلب عليها لغة النفي والتناقض والاستبعاد والتشويه والنظرة الخارجة عن حدّ العدل والاستقامة.
ليس التراث نصوصاً نحاول أن نجري فيها (وعليها) جملة من التمارين الذهنية. هو أبعد من ذلك بكثير، يتحرّى قابليات أمّة ما للحياة والنهوض والتجدّد، وذلك بفعل موقع تراث الأمّة من نبض حيويتها، وما يحمله هذا التراث من ذاكرة حضارية حيّة، ومن مؤشّرات ودلالات المستقبل، فيكون التعامل مع التراث جزءاً من تراث الأمّة وذاكرتها الفاعلة. وجزء من إشكالية التراث، البحث عن قيمة التراث في عمارة الأمة، وليست الخطورة أن تتعدّد وتتنوّع الاجتهادات في مجال التراث، فذلك كلّه قابل لأن يكون زاداً لإثراء التراث، وأداةً في بناء صرح الفكر الحضاري المتجدّد للأمّة، وشاهداً على استعادة فاعليتها الحيوية، وقابلاً لأن يُحسب لصالح نهوضها وإحياء بنيتها الفكرية القادرة على استعادة فاعليتها الحيوية، لا أن يُحسب عليها، وما إذا كنّا سنؤسّس منها موقفاً وموقعاً يمهّد لترشيد الخطاب الفكري والمنهجي الذي يضع قضية التعامل مع التراث موضعها اللائق بها، من دون إفراط أو تفريط، فنكون بذلك قد قمنا بالوفاء لمن سبقنا، وكنّا أهلاً بهذا الأداء والوفاء للحضارة وللانتماء إلى أمّة الشهود الحضاري وامتدادها المستقبلي. إن علينا وفق هذا المسار ألا نتوقّف في البحث، ليس عن القيمة الذاتية في التراث فقط، بل علينا أن نبحث عن عناصر القيمة المضافة إليه، عبر فعلنا فيه وتفاعلنا معه، وتفعيلنا له وتشغيلنا لمناهجه وأدواته وآلياته، وتحريكنا لكلّ عناصر الاستجابة الإحيائية والتجديدية.
بإدراكنا موقع التراث في تجديد الأمّة، ندرك خطورة فقد مسالك الوصول إلى هذا الزاد الحيوي
واقع التحدّي الحضاري الذي تعيشه الأمّة، وهو مأزوم، انعكس في خطاب التراث، فحوّله (غالباً) خطاباً عقيماً يستنزف الطاقة الفكرية للأمّة بدلاً من أن يغنيها، بل صار في ذاته من عناصر أزمة الواقع العربي والإسلامي وتأزيمه، وربّما يرجع ذلك في بعض منه إلى ما أحاط بواقع التقصير تجاه التراث عند ترك عملية إحيائه واستعادته إلى الآخرين، بل تجاوز الأمر ذلك إلى حدّ يجعل الآخر يوظّف تراث الأمّة ضدّ مصالحها، ويجعل منه ثغرةَ تقويض واستنزاف تنفذ منها سهام المناهضين من خارج أو من داخل، وتعشّش فيها جراثيم الواقع المأزوم من داخلها. وتتأجّج (في الوقت نفسه) "فتنة التراث" (إن صحّ التعبير) على نحو يستدعي إلى ذاكرة الأمّة ظروف الفتنة الكُبرى. فإذا أدركنا موقع التراث من عملية تجديد بناء الأمّة، فإننا نستطيع أن ندرك خطورة ما تتعرّض له من فقد مسالك الوصول إلى هذا الزاد الحيوي وسبل التعامل معه، بل تتحوّل المادة التراثية عاملاً من عوامل التشويه والغبش، وتداخل الرؤى واختلاط الأمور، ليصبح التراث في آن واحد أداةً وطرفاً في خصومة متأجّجة تستهدف الكيان الاجتماعي الحضاري للأمّة وجوداً ومصيراً، وهذا يوضّح الارتباط المصيري بين التراث وهُويَّة الأمّة ذاكرة وتمثّلاً وتطلّعاً، ذاكرة للماضي، وتمثّلاً للحاضر، وتطلّعاً إلى المستقبل.
القيمة المضافة للتراث تعني ألا نتوقّف عند حدّ التقويم، بل الإشارة إلى مسالك التوظيف من خلال التفعيل والتشغيل ضمن عمليات متعدّدة من مثل؛ الاستئناس بمصادر التراث الإسلامي المختلفة في تشكيل رؤية منهجية قادرة على العطاء في الحقول المعرفية المختلفة وتأصيلها وبنائها؛ استخدام بعض الأطر التحليلية في دراسة كثير من الظواهر الاجتماعية والإنسانية، من مثل أصول المنهج المقاصدي باعتباره نموذجاً إرشادياً، وما يمكن تحريكه ضمن تشكيلات بحثية ومنهجية تتساند فيها الجهود وتتفاعل، وكذلك تأسيس عناصر المنهج السنني في دراسة أصول الظواهر الاجتماعية والإنسانية والنفسية والتاريخية وتطوّرها، بما يحرّك عناصر تطبيق نظمها فيمكن أن تنتج بنيات معرفية على شاكلتها تمتاز بقدر من التحقيق والتدقيق وإمكانات التعميم؛ تأسيس قراءات الاعتبار والاستثمار للنصوص التراثية الإسلامية خروجاً عن جملة قراءات الإهدار والاعتذار. هذا النوع من القراءات الإيجابية للتراث يمكن أن يؤسّس عناصر منهجية التفعيل وآليات التشغيل وعمليات التوظيف. وغاية الأمر في هذا المقام أن نؤكّد أنه لا توظيف إلا في مساءلة التراث.الترابلبيل