مباحثات مسقط... السير على حبل مشدود
ثمة مفارقة لافتة بين لقاء جنيف الذي جمع، قبل أكثر من ثلاثة عقود، وزير خارجية العراق طارق عزيز وصنوه الأميركي جيمس بيكر، ومباحثات مسقط الجارية حاليا بحضور وزير خارجية إيران عباس عراقجي، والمبعوث الرئاسي الأميركي ستيف ويتكوف، ومثلت الواقعتان "الفرصة الأخيرة" أمام وقوع حدث خطير قد يغيّر مجرى الأحوال في المنطقة والعالم، واعتبرتا بمثابة فسحة صغيرة بين صمت الآلة الحربية ودويّها المجلجل.
في لقاء جنيف الذي دام نحو سبع ساعات، بدا كما لو أن الوزيرين يتحدثان بلغتين مختلفتين، إذ كانت نبرة عزيز تحمل طابع التحدّي والمكابرة، في حين كان بيكر حازما في لهجته، محذّراً ومهدّداً بأن العواقب ستكون مدمّرة للعراق، وستجعله يستدير نحو الخلف 180 درجة. وهكذا كنا في جنيف أمام مشهدين مختلفين، مشهد النظام العراقي وقد فقد قدرته على فهم ما يحيط به وما يمكن أن يحدث له، وإدارة الرئيس جورج بوش التي لم تعد في وارد إعطاء أي فرصة أخرى للعراق للتراجع، وبرفض الوزير العراقي استلام رسالة الرئيس الأميركي إلى صدّام حسين، والتي كانت هي الأخرى بمثابة إنذار وتحذير، وجد العالم نفسه على شفا حرب شكلت البداية لإعادة العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، بحسب ما توعّد بيكر، وهذا ما حدث، ولا يزال العراقيون يعانون منه.
المفارقة التي حملتها واقعة جنيف مع ما يجري في مسقط أن الإيرانيين كانوا أكثر ذكاءً وخبرة من العراقيين عندما فهموا اللعبة، وأدركوا أنهم أصبحوا مكشوفين تماماً، بعدما تعرّضوا لعملية استنزاف كبرى في السنة الأخيرة، أفقدتهم قدرتهم على تحريك أذرعهم الممتدة في أربع عواصم إقليمية، وشعروا بأنهم إذا ما تمادوا في غيهم سوف يدفعون الأميركيين للجوء إلى الخيار العسكري على النحو الذي حذر منه الرئيس دونالد ترامب، وسينعكس ذلك عليهم داخليا، وقد تصل الأمور إلى إطاحة النظام، وخاصة أن أوضاعهم الاقتصادية لا تبدو مريحة، ولذلك كان عليهم اتخاذ قرارات مؤلمة، وحرصوا على ممارسة نوع من البراغماتية دفعت مرشد الجمهورية علي خامنئي إلى إعطاء أوامره بقبول التفاوض مع الشيطان الأكبر، وهو الذي كان، الى وقت قريب، يرى في ذلك أمرا "ليس ذكيا، ولا حكيما، ولا مشرّفا"، ووضع يده بيد الإصلاحيين الذين يدعون إلى أخذ التغييرات الجيوسياسية الطارئة بنظر الاعتبار، ولكي يقنع المتشددين بانقلابه على ما كان يردده زعم أنه تلقى توجيها من المهدي المنتظر يسمح بالدخول في حوار مع الأميركيين. وهذا ما تجسّد في مباحثات مسقط التي ظهر الوزير الإيراني فيها على قدر من السلاسة والمرونة، وأحدث شعوراً بأنها يمكن أن تُفضي إلى نهاية مرضية للطرفين، وهي ما أطلقت عليها طهران صيغة "رابح- رابح"، ومهّدت لها بتسريب تقارير عن فك ارتباطها بأذرعها المعلومة، وتنصّلها من أي ممارسات ارتكبها وكلاؤها، كما سبقت ذلك بالانفتاح على دول كانت علاقتها بها متوترة حتى وقت قريب، وسعت إلى التصالح معها.
يبقى الأمل في أن تمضي طهران في تغليب العقل وصولاً إلى اتفاق "عاجل وملزم" كما تريده ينقذ المنطقة والعالم من أهوال حرب ثالثة إذا ما حدثت لن يظل أحد بمنجى منها
وفي لفتة ذكية، تستجيب لما قد يفكر فيه العقل الأميركي الحاكم، بخاصة الرئيس ترامب، لوّحت طهران بأنها مستعدّة لإتاحة فرص أمام الشركات والمؤسسات الأميركية للاستثمار بما لا يقل عن أربع تريليونات دولار، وهو رقم من المؤكد أنه يسيل له لعاب الأميركيين، ويحفزهم للتعاطي مع المطالب الإيرانية بشيء من المرونة، وقد يدفعهم إلى الإفراج، حتى قبل التوصل إلى اتفاق نهائي، عن مليارات الدولارات المجمّدة، وهو ما تأمله طهران.
ومن ناحية أخرى، ورغم أن طهران تعتبر برنامجها النووي عنصراً جوهرياً، ونقطة أساسية في استراتيجيتها القومية، إلا أنها في ظل المتغيّرات الحالية ربما تقبل بتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم الى حد معقول قد يصل إلى 20% في حين أنها اقتربت عمليّاً من نسبة تخصيب تؤهلها لصنع قنبلة نووية، ما دفع واشنطن إلى الإصرار على تفكيك بنيتها النووية بشكل كامل. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن برنامج الصواريخ البالستية الذي تريد واشنطن إيقاف العمل به، وهذه الأمور تجعل مسار المباحثات في جولاتها اللاحقة على قدر من التعقيد المتسم بالتفاؤل الحذر.
إلى ذلك، يبقى الأمل في أن تمضي طهران في تغليب العقل وصولاً إلى اتفاق "عاجل وملزم" كما تريده ينقذ المنطقة والعالم من أهوال حرب ثالثة إذا ما حدثت لن يظل أحد بمنجى منها. ... وفي اللحظة الماثلة، تبرز جملة أسئلة مهمة، هل سيجعل الاتفاق المنتظر من إيران قوة مسيطرة في الإقليم أم قوة مسيطَراً عليها؟ وهل ستتخلى واشنطن فعلاً عن الخيار العسكري الذي لوحت به، وتسمح ببقاء إيران دولة ذات نفوذ وتأثير؟ وهل ستكفّ طهران فعلا عن التدخل في شؤون دول الإقليم، خصوصا العراق؟
أغلب الظن أن تظل هذه الأسئلة بدون جواب إلى أمد أطول، كما قد تظل مباحثات مسقط أشبه بالسير على حبل مشدود لا تؤمن عواقبه.