ما يجذبنا في روايات أليف شافاك

31 مارس 2025
+ الخط -

من أهم عناصر الجذب في الرواية؛ الذكاء وهو منسوب للكاتب صانع النص، والمتعة وهي منسوبة للنص، أي مادة القراءة. يوجد كُتّاب في العالم جمعوا بين الصفتَين. ربما يمكن في القصة استحضار اسمَين عالميَين: تشيكوف وبورخيس، وفي الرواية حين يعرف الكاتب كيف يحرّك شخصياته برشاقةٍ، ويناغم أجواء روايته، فإنه يمكن أن يحمل صفة الذكاء. والنص الممتع هو نتاج هذه الرشاقة في السرد، الوصف والتوقفات التأملية. وتنامي الحدث يجعل النصّ ممتعاً، وذلك كلّه يجب أن يقاس في النص ويوزَن بدقة، كما نرى مثلاً في روايات أمين معلوف. وبالعودة إلى أصل تسمية الأدب، نجدها مشتقّة من المآدب، أي من متعة الطعام، لكن الفرق بين الطعام والأدب أن الأخير لا يقصد إمتاع الحواس فحسب، إنما لكونه، علاوة على ذلك، يحمل رسالة ضمنية؛ تكون في الغالب إنسانية، حتى وإن انبثقت من التاريخ والمجتمع. ننظر مثلاً إلى الروايات التي يكون أبطالها أطفالاً، سنلمح بعمق هذا البعد الإنساني، وأيضاً الروايات التي أبطالها رجال ونساء من هامش الحياة، لذلك فإن الكاتب الذكي هو مَن يستطيع أن يلمّ شتات مرحلة عريضة في صفحات معدودة. ... قرأت أخيراً رواية "المسافرون الإنجليز" التي صدرت ترجمتها للعربية عن سلسلة "إبداعات عالمية" في الكويت، وهي في جزئين وتاريخية وممتعة، وتوضح، من دون أن تصرّح، أن الأوروبين الموجودين حالياً في أستراليا هم من أصول إجرامية، تآنسنوا مع الوقت بسبب تعاقب القوانين والضوابط، إذ كانت أستراليا مسرحاً للمجرمين الذين يُزجون إلى تلك القارّة عقوبةً، تحوّلوا إلى قتلة ومجرمين جدد أكثر بشاعة في أستراليا. هناك رواياتٌ أحياناً ينقصها جانب التشويق، وخاصة المبنية فلسفياً على الأفكار الكبرى، ربما الرواية هي ابنة البساطة، لكن ليس التبسيط، والشقيقة الصغرى للحكي.

من رواياتٍ قرأتها في رمضان "البنت التي لا تحبّ اسمها" (ترجمة نورا ياماتش، دار الآداب، بيروت، 2019) للتركية أليف شافاك، التي تجذب مختلف رواياتها القراء العرب، ابتداء من روايتها الأشهر "قواعد العشق الأربعون" التي رغم العدد الوفير لصفحاتها عرفت قراءات كبيرة، وانسحب الأمر نفسه على مختلف ما تُرجم من رواياتها إلى لغة الضاد. و"البنت التي لا تحب اسمها" وصلت في عام 2022 مثلاً إلى طبعتها الخامسة. وسيلاحظ القارئ تميّز هذه الرواية بالذكاء والمتعة المتأتيَين من قدرة الكاتبة على اكتشاف زوايا جديدة في الحياة بعين طفلة، خاصة التساؤلات اللماحة حول عالم الكبار، ومتعةُ الحكي فيها تجعلك تكمل الرواية التي جاءت في 159 صفحة في وقت قياسي.

نلمح أن الأسماء في الرواية عربية: كريمة، حسن، كامل، خيال، ناظم، كما تمتحّ وتستقي الرواية واقعيّتها من عالم الأساطير والخيال وعوالم ألف ليلة وليلة، من دون أن تتورّط في التحليق الكلي. وقد اكتسبت هذه السّمة من كتاب "الليالي العربية"، وهي أهم سمة يمتاز بها الكتاب العربي الخالد، إذ تكون الحكايات مشدودة بداية إلى الواقع قبل أن تنطلق إلى عالم الخيال، فالسندباد ابن مدينة معيّنة (بغداد) وأسواقها وباعتها، لديه أسرة وأهل، لكنه ينطلق بعد ذلك إلى عالم الأساطير في سياق يتماشى مع الواقع، وينطلق من أرضه. ولذلك يظلّ القارئ مشدوداً إلى هذه الحكايات، من دون أن يفقد صلته، إلّا في حدود بسيطة، بالعالم القديم وأسمائه وصفاته، بل تجد في قصص "الليالي ..." أسماء حكّام وخلفاء معروفين تاريخياً، مثل هارون الرشيد ووزرائه البرامكة، وكأنها تسرد تاريخاً، لكن بالمتعة والتجنيح.

هكذا كان حال" سارودينا"، بطلة رواية "البنت التي لا تحبّ اسمها"، نظراً إلى غموضه، لأنه اسم لزهرة نادرة، فهي ابنة الحياة التركية الطبيعية ومدارسها وألعابها، لكنها لا تلبث أن تبتكر عالماً موازياً حين تكتشف كرة مضيئة خلف مكتبة المدرسة، في أحد أجزاء هذه الكرة ما يرمز إلى وجود قارّة ثامنة خرجت من أحد المحيطات، ولا تضيء هذه الكرة إلّا انطلاقاً من وجود كتب حولها. ولأنّ العالم صارت علاقتُه بالكتب محدودة بسبب طفرات التكنولوجيا، خاصة لدى الأطفال، عاش سكّان هذه القارّة حالات من الجفاف وقلة الموارد الزراعية، وكان دور سارودينا أن تبحث جادّة عمّا يشجع الناس على القراءة، إنقاذاً لسكان هذه القارّة البعيدة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي