ما وراء العزوف عن الانتخابات التونسية

ما وراء العزوف عن الانتخابات التونسية

21 ديسمبر 2022
+ الخط -

وأخيراً، أجريت الانتخابات التشريعية في تونس بوصفها المرحلة النهائية من تركيز مؤسسات النظام السياسي الجديد الذي يشرف عليه الرئيس قيس سعيّد، بداية من صياغة دستور جديد والاستفتاء عليه، مروراً بوضع قانون انتخابي، وصولاً إلى إجراء الانتخابات التي ستفرز مجلساً جديداً للنواب، يتولى "الوظيفة التشريعية" كما يسمّيها دستور 2022. غير أن ما جرى في هذه الانتخابات ونسبة المشاركة المتدنية بشكل غير مسبوق في التاريخ السياسي التونسي يثيران أكثر من سؤال، فهذه النسبة التي لم تتجاوز 9% من المسجّلين في القوائم الانتخابية هي لفت نظر فعلي إلى السلطة السياسية القائمة وداعميها، فمنذ يوليو/ تموز 2021 وإيقاف المسار الديمقراطي وإلغاء دستور 2014 كان المبرّر الحاضر دوماً أن تونس كانت تعيش في ظل نظام ديمقراطي شكلي، فقد شرعيته الشعبية، ولم يعد يستجيب لتطلعات الشعب، وأن المطلوب هو إعادة بناء النظام السياسي، بما يعيد للدولة هيبتها، وللسياسة جدّيتها، وللرأي العام تأثيره، غير أن هذا التبرير لم يكن يتجاوز مجرّد أنه تعبير إنشائي لا تأثير له في الواقع الفعلي. وكان محاولة بناء نظام سلطوي هجين يراعي بعض المكتسبات الديمقراطية التي اعتاد عليها الناس، من قبيل التعدّدية الحزبية والحرية النسبية للتعبير، وفي الوقت نفسه، إجراء تعديلات قانونية في بنية الهيكل السياسي، حيث يحتكر رئيس الجمهورية كل الصلاحيات، ويجمع بين السلطات التشريعية والتنفيذية والإشراف على السلطة القضائية وانفرد بصياغة القوانين المنظمة للحياة السياسية، واختص بوضع الدستور الجديد.
كانت الانتخابات السبت الماضي امتحاناً فعلياً لمدى قابلية الجمهور للتعديلات الجديدة، ولنجاح النظام السياسي القائم في تمرير التعديلات التي أجراها، وفي ظل قانون انتخابي جرى تفصيله من أجل إبعاد الأحزاب من المشهد وإضعاف تأثيرها، ومع إلغاء التمويل العمومي للمرشّحين، بدعوى محاربة المال السياسي. وكان المفترض أن تلاقي هذه الخطوات ترحيباً فعلياً في الشارع التونسي، غير أن الحصيلة التي كشفتها صناديق الاقتراع تكشف عن أزمة سياسية حادّة لا يمكن التغاضي عنها أو التعامل معها بمنطق اللامبالاة. لقد أصابت المقاطعة الشعبية وضعف الإقبال على الانتخابات قلب الشعبوية السياسية في مقتل، باعتبار أن مجال دعايتها الوحيد وتركيزها الدائم كانا يتعلقان بفكرة أن هذا ما يريده الشعب، وأن كل إجراءات إلغاء المسار الديمقراطي تمّت باسم الشعب وبدعوى الاستجابة لرغبته.

نوع من المقاطعة والتمرّد السلبي، واعتبار العملية السياسية غير شرعية ولا تستحق التأييد

لا يمكن تفسير ضعف المشاركة السياسية وانتشار حالة من العزوف السياسي وعدم المشاركة في الانتخابات العامة إلا بأن هذا كله نوع من المقاطعة والتمرّد السلبي، واعتبار العملية السياسية غير شرعية ولا تستحق التأييد. وكانت هذه النتيجة متوقعة لدى كل مراقب موضوعي، ولها أسبابها الفعلية المؤثرة، وأهمها فشل الأداء الحكومي للسلطة الجديدة مع تزايد الأزمات وانتشارها بما يمسّ الحياة اليومية بشكل مباشر، وبصورة لم يعرف لها التونسيون نظيراً حتى في أسوأ الفترات، فطوابير البحث عن الوقود وغياب المواد الغذائية الأساسية لم يعرفها المواطن التونسي، حتى في أوقات غياب الدولة في زمن الانتفاضات الاجتماعية. 
لقد تصوّر القائمون على الحكم أن انتقاد الجمهور العام أداء الأحزاب ونقمته على سلوك بعض المنظمات الاجتماعية، مثل الاتحاد التونسي العام للشغل واتحاد الأعراف، سيجعلانه يقبل بمزيد انحدار المستوى المعيشي. وهذا وهم ناتج عن أن حكومة الإدارة التي تسيّر البلاد حالياً لا تدرس المزاج العام للشعب، وتمارس السلطة من خلال فكرة القوانين والمناشير والقرارات القانونية من دون مراعاة الجانب السياسي في التعامل مع الشرائح المجتمعية المختلفة. 

وهم الإجماع الظاهري جعل السلطة لا تنتبه إلى حقيقة أن هذا النوع من التقدير السياسي منافٍ للطبيعة السياسية للشعب

الأمر الآخر الذي أدى إلى هذه النتيجة اعتقاد رأس السلطة الحالية أنه يحظى بالإجماع الشعبي المطلق، وهو يبني تصوّره هذا انطلاقا من نتائج الدور الثاني للانتخابات الرئاسية التي أوصلته إلى الحكم من دون مراعاة الظروف التي أدّت إلى تلك النتيجة وطبيعة منافسه السياسي، وأن الوصول إلى السلطة يُضعف الشعبية، ويؤدي إلى تآكلها، حتى وإن كان صاحب السلطة ناجحاً، فما بالك وأداؤه السياسي غير ذلك، فوهم الإجماع الظاهري جعل السلطة القائمة لا تنتبه إلى حقيقة أن هذا النوع من التقدير السياسي منافٍ للطبيعة السياسية للشعب، وللنتائج المترتبة على سنوات من التعدّد الحزبي والتنوع الإيديولوجي والانتقاد العلني للسلطة، بما يجعل المواطن قادراً على التمييز والحكم على أداء صاحب السلطة والقيام بردود أفعال غير متوقعة للتعبير عن عدم رضاه. وفي ظل انتشار أدوات المعرفة والانتقال اللحظي للمعلومات والأفكار والوقائع عبر أدوات التواصل الاجتماعي، كان من الطبيعي أن يتعرّض النظام الجديد لتراجع شرعيته وانسداد قنوات اتصاله مع مجتمعه، وهو ما أفضى، في النهاية، إلى هذه النتيجة التي تجسّدت في مقاطعة شاملة للانتخابات... بقي الآن أن نتساءل: كيف سيكون رد فعل السلطة السياسية القائمة، وما طبيعة تعاملها مع المزاج الشعبي المتوتر حالياً؟ وهي استجابة تقتضي كثيراً من الحكمة وحُسن الأداء والعقلانية التي تحتاجها تونس في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.