ما وراء اعتراف بايدن بـ"الإبادة الأرمنية"

ما وراء اعتراف بايدن بـ"الإبادة الأرمنية"

07 مايو 2021

بايدن في البيت الأبيض .. (8/4/2021/Getty)

+ الخط -

جاء إعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن الأرمن تعرّضوا، في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية عام 1915، لإبادة جماعية، كي يزيد التوتر بين أنقرة وواشنطن، ويتوّج تأزّم العلاقات التركية الأميركية، إذ على الرغم من أنه لم يُحمّل تركيا المسؤولية، وأنه "لا يهدف إلى إلقاء اللوم على أحد، ولكن لضمان عدم تكرار ما حدث"، إلا أنه استدعى ردود فعل غاضبة وحادّة من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وسائر المسؤولين الأتراك الذين أجمعوا على أن الاعتراف الأميركي جاء نتيجة حسابات وضغوط سياسية، وليس له أي قيمة تاريخية أو قانونية.

ويجادل الأتراك بأن الأحداث المأساوية التي ألمّت بالأرمن في ذلك العام لم تكن إبادة جماعية لهم، وأن ما حصل كان نتيجة إجراءات اتخذتها الدولة العثمانية للرد على تمرّد الأرمن عليها. وقد وقع التمرّد عندما كان الجيش العثماني يحارب الروس والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين خلال الحرب العالمية الأولى، من أجل استعادة أراضي بلاده المحتلة. وتمثل بتشكيل مجموعات عسكرية من المتطوعين، قدّمت الدعم للقوات الروسية والفرنسية والقتال إلى جانبها، فردّت الدولة العثمانية على التمرّد باتخاذ قرار بتهجير الأرمن من مناطق الأناضول، ولم يشمل أرمن إسطنبول. ويعترف الأتراك بوقوع أعمال قتلٍ خلال تلك الفترة، لكنها لم تشمل جميع الأرمن، وأن الادّعاء بمقتل 1.5 مليون أرمني خلال التهجير، مجرد بروباغندا، لذلك يطالبون بتشكيل لجنةٍ من المؤرّخين المستقلين، من أجل كشف حقيقة ما حدث.

وبصرف النظر عن حيثيات توصيف ما جرى للأرمن إبّان الحقبة العثمانية، واختلاف الرواية التركية عن الرواية الأرمنية، إلا أن العلاقات بين الحليفين الأطلسيين لم تكن بحاجةٍ إلى عامل توتر جديد، يزيد من هوّة الخلافات بينهما، ويرفع مستوى التوتر والتأزم الحاصل، إذ إن ما يؤشّر على تدهور العلاقات التركية الأميركية، أن الرئيس بايدن لم يتصل بالرئيس التركي إردوغان إلا بعد ثلاثة أشهر من تنصيبه، وقبل يوم من إعلانه تعرّض الأرمن لـ"إبادة جماعية" على أيدي العثمانيين، وقبل ذلك أبلغت الولايات المتحدة الأميركية تركيا، رسمياً، بإخراجها من البرنامج متعدّد الجنسيات لإنتاج المقاتلة الأميركية المتطورة "إف 35"، على خلفية شرائها منظومة الصواريخ الروسية "إس 400".

المؤسسات المؤثرة بصناعة القرار لم تحذر بايدن، بل حثته على اتخاذ هذه الخطوة وإغضاب تركيا

ولا يمكن اعتبار الخطوة التي أقدم عليها بايدن معزولة، إذ يجب البحث عمّا وراءها، حيث تقف مجموعة من العوامل والأسباب، ولا تُفسّر بخضوعه لمجموعات الضغط الأرمنية، وإيفائه بوعوده خلال فترة حملته الانتخابية، فهو ليس أول رئيس أميركي يتعرّض للضغوط بهذا الخصوص، إذ كان أسلافه في البيت الأبيض عند توليهم الرئاسة يواجهون ضغوطاً معاكسة، واعتراضات من المؤسسات والمراكز الأميركية المؤثرة بصنع القرار، مثل البنتاغون (وزارة الدفاع) ومجلسي الشيوخ والنواب وسواهم، ضد توصيف ما جرى للأرمن بإبادة جماعية، بالنظر إلى جملة المصالح الأميركية مع تركيا. ولكن هذه المرّة يبدو أن هذه المؤسسات لم تحذر بايدن، بل حثته على اتخاذ هذه الخطوة وإغضاب تركيا. لذلك، يميل مراقبون أميركيون إلى القول إن بايدن قام بها لأنه بات يدرك أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى تركيا، بالقدر الذي أصبحت فيه تركيا، للمرة الأولى منذ سنوات عديدة، بحاجة أكثر إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، تقف وراء الخطوة الأميركية مجموعة من الخلافات في ملفات عديدة، وخصوصاً ملفات السياسة الخارجية، إضافة إلى تراجع أهمية تركيا التي كانت تحظى بها من قبل في الاستراتيجيات الأميركية.

علاقات الولايات المتحدة مع تركيا تحكمها المصالح أولاً، مثل العلاقات بين سائر الدول، فلا شيء يتقدّم على المصالح في تمتين وتوطيد أو توتير وتأزيم علاقات الدول بعضها ببعض، ويشمل ذلك جميع الدول، وخصوصاً التي تركز في خطاباتها على القيم والمبادئ، وتنادي بضرورة الاحتكام إلى القانون الدولي، وإلى قيام نظام عالمي "ديمقراطي" و"عادل"، لأن واقع الأمر يكشف أن المصالح لا يُعلى عليها في إدارة العلاقات الدولية، وفي الارتقاء بها إلى مراتب التحالف والتعاون الاستراتيجيين، أو النزول بها إلى الحضيض، ونقلها من التحالف والتعاون إلى التوتر والعداء، وفق ما تقتضيه المصالح الحيوية للدول.

تقدم العلاقات التركية الأميركية مثالاً على تحولات العلاقات بين الدول من التحالف والتعاون إلى العداء والتوتر

وتقدم العلاقات التركية الأميركية مثالاً على تحولات العلاقات بين الدول من التحالف والتعاون إلى العداء والتوتر، إذ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد مع انضمام تركيا إلى حلف شمالي الأطلسي (الناتو) عام 1952، الذي تبعه توقيع اتفاق في عام 1954 بين واشنطن وأنقرة على استخدام القوات الاميركية قاعدة إنجرليك الجوية التركية. ومنذ ذلك الوقت، اعتبرت الولايات المتحدة تركيا عنصراً أساسياً في استراتيجياتها في مناطق الشرق الأوسط وأوراسيا، بوصفها دولةً وظيفيةً في مواجهة الخطر الشيوعي السابق، وشرطياً أميركياً في المنطقة، لكن علاقات الدولتين شابها البرود على خلفية رفض البرلمان التركي تقديم مساعدات لوجستية للقوات الأميركية إبّان الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. ثم شهدت العلاقات التركية الأميركية تحسّناً، خلال المرحلة التي وصل فيها حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2002، إلا أنها مرّت بعد ذلك بفترات من التوتر والتأزم، على الرغم من تعاون تركيا مع الولايات المتحدة في مجموعة من القضايا الدولية، إذ ظهرت خلافاتٌ جديدة في التوجهات والمصالح الأميركية والتركية في ملفات إقليمية عديدة خلال فترة رئاسة باراك أوباما، حيث اختلفت المواقف من الثورات العربية، وخصوصاً الثورة السورية، نتيجة دعم واشنطن حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية ومليشياته المسلحة، والإدارة الذاتية التي شكلها في مناطق الجزيرة السورية، والتي تعتبرها تركيا خطراً عليها. ثم تعمّقت الخلافات والتوترات بين الطرفين، عندما اتهمت تركيا إدارة الرئيس أوباما بدعم المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في منتصف يوليو/ تموز 2016، وطالبتها بتسليم الداعية فتح الله غولن، الذي اتهمته بالوقوف وراءها. وبعدها دخلت علاقات الدولتين في حلقة سلبية على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية، أفضت إلى تغيير وجهة السياسة التركية نحو التفاهم والتنسيق مع روسيا في ملفات المنطقة، وشرائها منظومة الصواريخ "إس - 400". وهو أمر أسعد الساسة الروس الذين كانوا جاهزين لسدّ الفراغ الناتج من توتر علاقات أنقرة بواشنطن، لذلك جاءت الخطوة الأميركية أخيراً في مسألة الأرمن تتويجاً لمسار من الخلافات والتأزم.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".