ما قبل الدولة وما بعدها
قبل عقود قليلة، كان صنّاع الرأي العام والمؤثّرون في تشكيل الوعي الجمعي في البلدان العربية التي يمكن أن نعدّها دولاً مفصليّة، هم زعماء وقادة لأحزاب وهيئات، تقترب، وإنْ بمقادير متفاوتة، من فكرة الحداثة والتقدّم والمؤسسة الحديثة. وحتى من وصل إلى السلطة من هؤلاء وأحاطوا أنفسهم بحاشيةٍ من أبناء طوائفهم، وخصوصاً من ذوي القربى من أبناء هذه الطوائف أو العشائر، سعوا، في خطابهم المعلن، للتصرّف بوصفهم قادة للجيوش وهيئات أركانها وحملة أفكار الوحدة والوطنيّة، من دون أن نخوض في نقاش بشأن مدى جديّة (وصدقيّة) تمثّلهم هذه الأفكار أو تمثيلهم لها، لكون هذا الادّعاء انطوى على إخفاء أو "إعلان ضمني" عن تمثيل موارب لطوائفهم. ورغم صحّة ذلك، لم يسبق أن بلغت الحال ما بلغته اليوم من مجاهرة لا تحتمل اللبس أو المواربة في القول بتمثيل هذه الطوائف لا تمثيل المجتمع بمكوّناته كافة.
في الظاهر يبدو أنّ الدولة الوطنيّة نجحت في فرض سيطرتها على أراضيها وعلى المجتمع عامة، ولكن ما حدث حقيقة أنّ الدولة كي تفعل ذلك تماهت مع البنى السابقة لها، ونقلت أدوات سيطرتها إلى بنى الدولة، فبدت امتداداً لسلطة القبيلة أو العشيرة أو الطائفة والمذهب، باستثناءات قليلة، قد تكون مصر أهمّها، بسبب المكانة القويّة للدولة هناك تاريخياً. في عبارات أكثر وضوحاً، القبيلة والطائفة، وما إليهما من بنى تقليدية، اخترقت أجهزة الدولة وهيمنت عليها، وجيَّرتها لصالح "تأبيد" سلطتها، أو إطالتها ما أمكن.
ما نحن ازاءه اليوم، عربيّاً، أمام تراجع مكانة (ودور) القوى التي بشَّرت بفكرة الحداثة، لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي، ظهور نوع من "التقليدية الجديدة"، أو أنّها التقليدية ذاتها، منبعثة في ظروف اليوم، حاملةً معها خصائص هذه الظروف، وهي تنخرط في النّشاط السّياسي والمجتمعي تحت تأثير ما يمكن اعتبارها ردّة الفعل القوية على ما أتى به التحديث المجتمعي، حتى لو اتفقنا على عشوائيته، الذي زعزع البنى التقليدية وأفقد رموز هذه البنى أوجهاً من مكانتها ودورها، حيث تسعى اليوم، جاهدةً، لاستعادتها، متكئةً في ذلك على القاعدة الاجتماعية الواسعة التي تنجح في تعبئتها في الظرف الراهن، مستخدمةً إياها وقودًا لبلوغ هذا الهدف.
في مقالٍ للكاتب اللبناني الراحل جورج ناصيف، يعود إلى عام 2000، استشهد بتعبيرٍ أطلقه مواطنه، الشاعر محمد العبدالله، على الدولة، واصفاً إياها بـ"حبيبتي الدولة"، وفيه يذهب، هو الآخر، إلى ردّ الاعتبار إلى مفهوم الدولة. وبصرف النظر عن السياق الذي أتى فيه المقال، فإنّ أهمية ما جاء فيه تبدو واضحة حين نرى اليوم أنّ ما هو سابق للدولة، من هياكل وبنى عشائرية وقبلية وطائفية ومذهبية، قد أقصتها، فعلياً، عن دورها المركزي المنظّم للمجتمع، بإقامة دويلات داخل الدولة، جعلت الأخيرة منها ملحقاً بها.
وحكماً، يؤدّي تراجع مكانة الدولة إلى تراجع دور المجتمع المدني ومكانته أيضاً، فلوجود مجتمع مدني يلزمنا وجود الدولة الحديثة، أي إنّ أولوية التكوين لها هي، ففي غيابها يصبح الحديث عن المجتمع المدني ضرباً من العبث، فهي الناظم الضروري لأمن المجتمع واستقراره وتنميته باحتكارها العنف الضروري لذلك، إذا وفت بشروط العدل والمساواة بين مواطنيها، وحين تضعُف الدولة أو تنهار، يضعُف المجتمع المدني أو ينهار. وعلينا أن نتمعّن في ما شهده، ويشهده، عدد من بلداننا العربية اليوم: العراق، سورية، ليبيا، لبنان واليمن وغيرها، فما إن انهارت الدولة المركزية أو ضعفت، حتى استشرى نفوذ الجماعات المتكئة على الإرث السابق لقيام الدولة، من تكويناتٍ طائفيةٍ وقبليةٍ وعشائريةٍ ومذهبيةٍ وما إليها، التي أصبح للكثير منها أذرع مسلحة.
والمجتمع المدني، من حيث هو مقابل للدولة، عليه أن يكون أكثر جذرية من الدولة ذاتها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدّم والحقوق الديمقراطية، حازماً في نضاله من أجل بناء الدولة الحديثة والعصرية، التي عليها أن تتحرر من ثقل الولاءات والتعاضدات التقليدية السابقة لها، من قبيل القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية وسواها، عبر تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للناس جميعاً، وإخضاعهم جميعاً، وعلى قدم المساواة، للقانون بما ينصّ عليه من حقوق ومن واجبات، ونبذ أشكال التمييز والمحاباة كافة، بناءً على أيّ من الولاءات والانتماءات الفرعية.