ما حمله الإعلان الدستوري السوري
جاء الإعلان الدستوري المؤقت في سورية كي يكون البوصلة الموجّهة لحوكمة الفترة الانتقالية فيها، والتي حدّدها بخمس سنوات، واستجابة لحاجة ملحّة، تتمثل في سد الفراغ القانوني، ووضع تصوّرات لإدارة شؤون الدولة الجديدة، عبر تأطير عمل السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومنح شرعية دستورية للسلطة الجديدة ومؤسّساتها وأجهزتها، وهو أمر تقتضيه طبيعة المرحلة الانتقالية، خاصة أنه يهدف إلى تشييد أسس لعملية انتقال سياسي جامعة، والوصول إلى بناء دولةٍ تحتضن جميع السوريين، ويمتلكون فيها قرارهم. وباعتباره إعلاناً دستورياً مؤقتاً، فإن هدفه ليس الدخول في مختلف التفاصيل في الدولة والمجتمع، إنما تحديد مبادئ عامة أساسية، يمكنها أن تفضي إلى تأمين الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، التي يأمل السوريون أن تقطع مع مرحلة الاستبداد والتوحّش، وتنقلهم إلى مرحلةٍ يسود فيها القانون والعدالة والممارسة الديمقراطية، ويشعرون فيها بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
ومثل سائر الخطوات والإجراءات التي قامت بها السلطة الجديدة منذ سقوط نظام الأسد البائد، أثار الإعلان الدستوري جدلاً واسعاً بين المهتمين والفاعلين السوريين، حيث اعتبره بعضُهم بمثابة خطوة أخرى، تهدف إلى ترسيخ نظام الفرد الواحد، وإعادة إنتاج الديكتاتورية والاستبداد، وهم الفريق نفسه الذي اعتبر ما جرى في الساحل السوري أخيراً إبادة طائفية، وحمّل مسؤوليتها للسلطة الجديدة، بينما في المقابل، هناك من رأى كل ما ورد فيه مطلوباً للمرحلة الانتقالية، وأنه إعلان مثالي، كله إيجابيات. وبعيداً عن المغالاة، وتحامل المعترضين ومحاباة الموالين، الإعلان الدستوري في حاجة إلى نقاش موضوعي هادئ، لمعرفة ما حمله، بعيداً عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، والتساؤل عن مدى قدرته على تأمين عملية الانتقال السياسي، وانتقاد ما غاب عنه من قضايا ومشكلات، تحتاج إلى سند دستوري، وأفضى غياب النظر فيها، وتركها إلى قوانين لاحقة، إلى نشوء حالة من عدم الوضوح.
بدايةً، ركز الإعلان الدستوري على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث المعتمد في النظم الجمهورية في العالم، وهو مبدأ تتبعه النظم الديمقراطية بشكل عام، لكنه يرد أيضاً في بعض دساتير الأنظمة القمعية أيضاً، من دون أن يطبّق فعلياً، فالعبرة في التطبيق والتنفيذ، خاصة أنه يفتقر إلى جهةٍ تراقب ذلك. وتنطبق هذه العبرة على كل المبادئ الأخرى التي وردت في نص الإعلان الدستوري.
من المهم جداً أن يمهد الإعلان لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال "إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية"، مهمّتها "تحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقائق وإنصاف الضحايا والناجين"
ليس مستغرباً أن يضع الإعلان المؤقت السلطة التنفيذية في يد رئيس الجمهورية، ويعطيه صلاحية تعيين الوزراء، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ، وتعيين أعضاء مجلس الأمن القومي. لكن المستغرب عدم وضع جهة مراقبة تحاسبه إذ حاد عن أداء مهمّته، حيث منح الإعلان السلطة التشريعية الكاملة لمجلس الشعب في سن القوانين وتشريعها، الذي يعيّن الرئيس ثلث أعضائه فقط، فيما تنتخب ثلثي أعضائه الباقين هيئات ناخبة في مختلف المحافظات السورية، لكن هذه السلطة التشريعية ليس لها الحقّ في مساءلة الرئيس عن قراراته وممارساته، وكذلك الأمر في ما يخص الوزراء، ومن ثم لا يستطيع كل من مجلس الشعب والنظام القضائي الانتقاليين منع رأس السلطة التنفيذية من القيام بتجاوزات تتعارض مع الإعلان الدستوري، أو اعتماد خطط وبرامج حوكمة تتنافى مع تطلعات السوريين ومصالحهم. ولعل مبدأ المساءلة والرقابة الشعبية لم تنل اهتمام واضعي الإعلان، لذلك لم يأتِ نصه على ذكر هذا المبدأ، وأفضى ذلك إلى تغافله عن مبدأ آخر هو السيادة الشعبية، التي تتيح لقوى المجتمع التعبير عن إرادتها عبر الانتخاب والاستفتاء الشعبي، وذلك على الرغم من أن الإعلان الدستوري تحدث عن انتخابات بعد وضع دستور سوري دائم في نهاية المرحلة الانتقالية.
ينبغي لفت النظر إلى تشديد الإعلان الدستوري على حماية حقوق الإنسان، وضمان الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية المصادق عليها من الدولة السورية، وتشمل حرية الرأي والتعبير، وحرية التنقل، وحماية الحياة الخاصة، والمساواة بين المواطنين من دون تمييز. لكنه وضع قيوداً بصياغات عامة وفضفاضة، تتعلق بالسلامة العامة والنظام العام والآداب العامة ومنع الجريمة وسواها. وجمّد عمل الأحزاب والجمعيات، على الرغم من الإقرار بأنها مكفولة، إضافة إلى ضمان حق العمل وتكافؤ الفرص.
يُؤخذ على الإعلان الدستوري أنه لم يشر إلى حقوق المكونات السورية، خاصة حقوق السوريين الأكراد، لذلك رفضته معظم القوى الكردية
من المهم جداً أن يمهد الإعلان لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال "إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية"، مهمّتها "تحديد سبل المساءلة ومعرفة الحقائق وإنصاف الضحايا والناجين"، واتخاذ جملة من الخطوات منها إلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وإلغاء مفاعيل الأحكام الاستثنائية الصادرة عن محكمة الإرهاب التي أوجدها النظام البائد، إضافة إلى تجريم الإعلان تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وأيضاً إنكار الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري أو تبريرها أو التهوين من وقعها، وترك الأمر إلى قانون سيصدر بشأنها من طرف مجلس الشعب المقبل، كما أن الإعلان استثنى من مبدأ عدم رجعية القوانين جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد البائد بحق الشعب السوري، الأمر الذي يعزز سيادة القانون، ويقوي دور السلطة القضائية.
يُؤخذ على الإعلان أنه لم يشر إلى حقوق المكوّنات السورية، خاصة حقوق السوريين الأكراد، لذلك رفضته معظم القوى الكردية، خاصة مجلس سوريا الديمقراطية التابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي اعتبره صادراً عن العقلية السابقة نفسها، ويمثل تراجعاً عن الاتفاق الذي وقع مع قوات سوريا الديمقراطية، ويعيد إنتاج نظام الحكم المركزي الذي كان في عهد نظام الأسد، وكذلك رفضه المجلس الوطني الكردي. كما يُؤخذ على تجميده عمل الأحزاب السياسية في المرحلة الانتقالية، على الرغم من إقراره حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسسٍ وطنية. وعليه، فإن الكرة في ملعب السلطات الجديدة، لاستدراك النقص الذي يعتريه، خاصة ضرورة ألا تتعامل السلطة بتسرّع مع الخطوات الأساسية، وأن تنظر إلى السوريين بوصفهم كائنات سياسية أيضاً، ومن حقهم المشاركة سياسياً في جميع مراحل بناء دولتهم، بما فيها المرحلة الانتقالية.