ما تحتاجه سوريّة
آخر ما تحتاجه سورية في الفترة الحالية استنزافها في صراعات طائفية، رغماً عن أبنائها أو بإرادتهم. في ذلك مقتل حقيقي لمفهوم "الثورة السورية". من الواضح أن كلّ مرحلة انتقالية متأتية بعد 14 عاماً من القتال، ومن عقود من الحكم المطلق، ستكون مليئة بالتحديات والاضطرابات. وفي الحالة السورية، لا تستلزم المسألة الطائفية، التي اتخذت طابعاً هُويَّاتياً أيام حكم الأسدين، باسم "حلف الأقلّيات"، "ثأراً" من جانب الحكام الجدّد، ولا "توجّساً" ممّن يصنّف نفسه في خانة الأقلّيات. في ذلك جزء من لبننة فاقعة وعرقنة مدمّرة وبلقنة تقسيمية. يتمحور المشهد في سورية في هذه الأيام حول ثلاث مناطق: الجنوب حيث الدروز، والساحل موئل العلويين، والشمال موطن الأكراد. وليست موروثات تلك المناطق السلبية ناجمةً من هيئة تحرير الشام وغيرها من التنظيمات، أحببنا ذلك أم لا، بل ممّا صاغه نظام الأسد سابقاً، المُستنِد في حينه أيضاً إلى دعم سنّي، شئنا أم أبينا.
يشبه الأمر ما خلّفه الاتحاد السوفييتي بعد تفكّكه في عام 1991 من أزمات ديمغرافية وعرقية، بفعل سياسة نقل السكّان من بلاد إلى أخرى. وكان سقوطه إيذاناً باشتعال حروب، أهلية وقومية، في قرغيزستان وطاجكستان وجورجيا، وبين أرمينيا وأذربيجان، وصولاً إلى الشيشان وداغستان، وغيرها. الفارق أن سورية أصغر بكثير من الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى أنها قادرة على تجميع قواها في إطار الدولة الواحدة، مهما كان نظام الحكم. لكن نقطة الانطلاق لمثل هذه الخطوة تستلزم شجاعةً من الحاكم، على اعتبار أن احتضان الجميع، لا تغييب المصالحة والمصارحة، يُعدّ مدخلاً لتفاهم سوري واسع، يتجاوز الخلفيات الطائفية والإثنية.
غير ذلك، ستعذّب سورية "اللبنانية" أهلها كثيراً، بل سيعبرون طريقاً طويلاً من التشرذم والانفكاك، ثم يعودون ويرون أن الاختلافات ستبقى، لكن إدارتها تبقى الأساس للحفاظ على بنية الدولة الواحدة. في الحالة اللبنانية، على الرغم من كلّ الكوارث والمآسي، وجديدها أخيراً العدوان الإسرائيلي على لبنان، إلا أن اللبنانيين مقتنعون في مكان ما بأنه لا يُمكن تجزئة لبنان ولا تقسيمه، كما أنهم غير قادرين على الذوبان في عقائد اللبناني "الآخر" وأفكاره، وكلّ اللبنانيين هم "الآخر" في عيون بعضهم بعضاً. بالتالي، الحلّ الأفضل والأنسب للجميع هو الاقتناع بأنه لا جدوى من تغيير عقلية "الآخر"، لكن يُمكن التفاهم معه تحت سقف قوانين محدّدٍ ضمن دولة واحدة.
تحتاج سورية ذلك، خصوصاً أن الاندفاعة العربية والدولية الداعمة لها يُفترض أن تشكّل محطةَ انطلاق لتجميع السوريين في سياق نظام يحتضن الجميع، وليس لنظام يبحث عن "البقاء إلى الأبد". لطالما كان "الأبد" محفّزاً لكلّ الثورات، من سورية إلى آخر العالم، والنظام المولود من ثورة يُفترَض أن يكون قد فهم ذلك أيضاً. في المقابل، لا يُمكن لأيّ عاقل التسليم بأن إيران ستقبل الخروج من سورية من دون ردّة فعل، ولو بشكل غير مباشر. المفارقة أن طهران تتّفق مع تلّ أبيب على العداء للنظام السوري الحالي، وهو أمر يسمح في استنباط ثغرات أمنية، يُفضي ضجيجُها إلى نسيان من كان البادئ أو المحرّض فيها. ولفهم ذلك، يكفي النظر إلى السلوك الإسرائيلي في الجنوب السوري، سواء بالتوغّلات الميدانية، أو بقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن "إسرائيل ستحمي الدروز". أمّا الإيرانيون، فتعهّدوا وتوعّدوا بـ"المقاومة في سورية". وهي بالمناسبة ليست مقاومة ضد إسرائيل.
لاحتواء مثل هذا الوضع، يحتاج الحكم الانتقالي في سورية لاعتماد مقاربة الحلول السياسية أكثر من الحلول الأمنية. الأولى تبقى دائماً مضمونة، خصوصاً أن المبادر هو الحاكم، فيما خطورة الثانية تكمن في تعدّد اللاعبين، الإقليميين تحديداً، القادرين على أداء دور سلبي فيها، وهو ما يفرّغ المرحلة الانتقالية من مضمونها، وتعود سورية إلى عهود الظلام التي سادت طوال الفترات الماضية.