ما بعد الاتفاق السيئ

29 نوفمبر 2024

لبناني يرفع علم حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت (27/11/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

لا حاجة لإطناب من أطنبوا في تصيّد مثالب اتفاق وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، فالسوءُ الذي تُنبئُ عنه بعض بنوده الثلاثة عشر ظاهرٌ لكل عيْن. أما أن يعمَد الحزب (وإعلامُه ومناصروه) إلى لغةٍ انتصاريةٍ في الدفاع عن موافقته على الاتفاق (وتمريرِه)، فذلك طبيعيٌّ، وليس من الحصافة أن يُطخَّ على قياديي الحزب لسببٍ كهذا. ببساطةٍ، لأن من بديهيّات العمل الحزبي (الفصائلي المسلّح خصوصاً)، وطبائعه، تعبويّته وتحصين صورته، وإن تلزَم في الأثناء مقادير من التواضع والتخفّف من المبالغات الفادحة. وعلى أيّ حال، صدَق حزب الله، لمّا كان أمينه العام نعيم قاسم وغيرُه، قبل أيام، يقولون إنه تلقّى ضرباتٍ ثقيلةً وقاسيةً، وإنه خسر من خسرهم من قادة وكوادر شهداء، غير أنه تمكّن من لملمة أوضاعه، واستطاع أن يُحافظ على تماسُكه، واستهدف العدو الصهيوني في غير موقع، وجندل جنوداً منه، وأخاف عُمقَ تل أبيب وجوارَها بضرباتٍ صاروخيةٍ دلّت على لياقةٍ عسكريةٍ فيه، وعلى قدرات تنظيمية وميدانية وتسليحية مطمئنة... وفي العموم، وبعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، أو جولةٍ داميةٍ شديدةٍ منه، ليس من الأخلاق أن يُبخِّس أحدٌ من التضحيات الباهظة التي بذلها المقاتلون المجاهدون في حزب الله، منذ أكثر من عام، في مشاغلة العدو، جيشِه ومستوطنيه، في حربٍ اختارها مبادرةً منه في إسناد غزّة والشعب الفلسطيني المتروك وحيداً هناك. اعتبر بعضُنا هذا مغامرةً، أو خطأ في الحسابات، أو تحميلَ لبنان ما في غير وُسعه. ولكلٍّ منا كل الحقّ في الجهر بمؤاخذاتٍ كهذه أو غيرها، إلا أن شيئاً كثير الأهمية، من بالغ الضرورة عدم تجاهله، أن حزب الله، في الذي بادَر به، كان يعزّز قيمة المقاومة، فكرةً وثقافةً وسلوكاً وخياراً. وأمام الانكشاف العربي وفظاعاته التي تتبدّى، مثلاً، في تحالف دولٍ عربيةٍ مع إسرائيل، يصبح وجودُ حزب الله، تشكيلاً مقاوِماً ومُقلقاً لدولة العدوان والاستيطان، ضرورةً، وإنْ من اللازم ألا تُؤخذ هذه الضرورة على كل علّاتها وثقوبها.

ليرى من يرى في الكلام أعلاه نبرةً وعظيةً، فليس الغرضُ منه المجادلة، وإنما العبور إلى أن حزب الله عندما وافق على الاتفاق السيئ، الذي يخفّض كثيراً من وجوده وحرّية حركته في الجنوب اللبناني، ويضع إمكاناته وقدراته التسليحية تحت مراقبة أميركية (إسرائيلية بداهة) وفرنسية وأممية، كان يُغادر منطقة المكابرة والأوهام عن قوّته، ويقدّم مصلحة اللبنانيين وأمنهم وسلامتهم على أي اعتبار، وقبل ذلكما وبعدهما، إنه يقرّ بأن ليس في وُسعه المضيّ بعيداً في حربٍ لا قدرة له فيها على إيذاء العدو كما يرجو، فضلاً عن أنه اختبر أن كلفة هذا الحال على لبنان شنيعة، وأنه لا يُسعف غزّة في شيء، فقد أمكن لإسرائيل أن تتمادى في جرائمها في القطاع المنكوب، وتضرِب، في الوقت نفسِه، بالقنابل شديدة الفتك، الضاحية الجنوبية وأحياء وشوارع في بيروت وقرى الجنوب وبلداته، كلما شاءت، وأمكن لها، بقدراتها وإمكاناتها التكنولوجية والاستخبارية (العملاء والجواسيس وغيرهم)، أن تنكُب لبنان بما يجعل نحو نصف مواطنيه نازحين ومهجّرين ومنكشفين أمام شهوة سلاح الجو الإسرائيلي بالقتل والتدمير.

لم ينتصر حزب الله، ولم يردع العدوّ عن شيء، لكنه أبلغه أنه قوّة ليس في استطاعته أن يُنهيها. وهنا لا بأس لمن يستطيب الدخول في متعة السجال عن الهزيمة والانتصار أن يبقى في هذا المربّع. وله كل الوجاهة ذلك القول عن وجوب فتح النقاش في كل شيء، في الذي يُبقي حزب الله صاحب قرار أول وأخير في شأن الحرب، بدايتها ونهايتها. ولكن الأدعى للانشغال به، بعد "التحوير" الذي صار عليه قرار مجلس الأمن 1701، في اتفاق البنود الثلاثة عشر، الذي لا لعثمة في نعته بأنه سيئ، أن هذا الاتفاق كان ضرورةً، وكان قبول حزب الله به تسليماً بحقائق أثقل وأقوى من أي أوهام. والأدْعى الآخر للانشغال به أيضاً لبنان نفسه، أيُّ حالٍ ينبغي أن يذهب إليه، لإنقاذ نفسه ما أمكن، وهو في مرضه الذي نرى. لا يبرأ منه بانتخاب رئيس للجمهورية، الأمر الذي يلحّ عليه المنتظم الدولي، والرئيسان نبيه برّي ونجيب ميقاتي، وإنما بترسيم حزب الله حدودَه عندما ينتصر لغزّة، وعندما يراجع خياراته، وعندما يوقن أن الذي صار عليه حالُه بعد الاتفاق السيئ المستجدّ لا يجعله كما كان قبله... وإنْ صحّ قول من سيقول عن هشاشةٍ ظاهرةٍ في المشهد وفي الميدان قد تفعل أفاعليها، المتوقّعة وغير المستبعدة والمفاجئة.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.