ما الذي أوقف النار في لبنان؟

03 ديسمبر 2024

فتى لبناني على مبنى دمره قصف إسرائيلي في صور (28/11/2024 Getty)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

في وسع الكتاب والمحلّلين والخبراء الاستراتيجيين، وغيرهم من الراسخين في علوم الجبر والمنطق والفلك، افتراض شتّى الأسباب والعوامل والدوافع وراء قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، وقف إطلاق النار في لبنان، وبإمكانهم أيضاً تسقّط وتعليل كل ما حمله على الاستجابة، فجأة، لخيار التهدئة المؤقتة، إما لضغوط دولية تقف الإدارة الأميركية في نقطة المركز منها، أو لإكراهات داخلية ملحّة ومعطيات جدّ مهمّة، أملت هذه الانعطافة في هذا التوقيت الذي يشي بأن أمراً جوهرياً بالغ الحرج استجدّ، ولا يمكن التغاضي عنه.

يتصل هذا الأمر الجوهري، حكماً، بمجريات الحرب المتراوحة، شهرين وأكثر، على خط التماسّ المباشر، وسط إخفاقات ميدانية وخسائر بشرية ومادّية، ناهيك عن عجزٍ لا تُخطئه العين عن تحقيق أيٍّ من أهداف حربٍ بدأت تحت شعار إعادة المستوطنين المهجّرين، وإيقاف إطلاق الصواريخ، وما يقتضيه "النصر الكامل" من شروط عدّة، أولها إبعاد المقاومة إلى شمال نهر الليطاني، وإقامة حزام أمنى، ثم علت في سمائها شعاراتٌ أثقل وزناً، مثل تجريد حزب الله من سلاحه وتفكيكه، وفوق ذلك تغيير توازنات الواقع السياسي اللبناني، كجزء من عملية تغيير وجه الشرق الأوسط.

في سياق تبريره وقف إطلاق النار، ذكر نتنياهو ثلاثة أسباب رئيسة: التفرّغ لإيران والاستفراد بغزّة، وإنعاش الجيش، وهي التسمية الملطفة لحالة الإنهاك التي تعاني منها فرق عسكرية برّية أعيا أفرادَها طول الحرب في الجنوب والشمال. وأحسب أن هذه الإيماءة إلى حالة الضبّاط والجنود المتعبين ما هي إلا الجزء الطافي من جبل الجليد الغاطس في بحر من المعضلات التي كان يشير إليها الاعلام العبري كثيراً، ويحذّر منها الجنرالات المتقاعدون، من دون أن يضع أحدٌ منهم الإصبع على الجُرح العميق، الذي آل إليه جيشٌ فقد أفراده روح القتال، وفرّت منه وحدات الاحتياط، بعد أن افتقرت للحافز الذاتي لمواصلة الحرب.

معلومٌ أن دولة الاحتلال تتكتّم على خسائرها في الميدان، وتحجُب عن مجتمعٍ تستبدّ به عقلية الانتقام أي نبأ قد يوقظه من سكرة انتصار حرب الأيام الستة، غير أنه لمّا طالت الحرب أكثر من كل التوقّعات، ونزف الجيش البرّي دماً غزيراً فاق القدرة على التحمّل وطاشت أهدافه المعلنة بين الركام والأشلاء في غزّة، لم يجد مجرم الحرب المطلوب للعدالة بدّاً من التعتيم على صورة "الجيش الذي لا يقهر"، وقد بهتت واعتراها الغبار، وعلى وهم النصر المطلق وقد صار مدعاة للاستهزاء، ولم يبق له سوى مواصلة الهروب إلى الأمام نحو الشمال.

قد تكون هناك عدة عوامل أسهمت على نحوٍ متفاوت الوزن في ترجيح كفّة قرار وقف إطلاق النار، مثل ضغوط جو بايدن المشكوك فيها، أو تقديم هدية تحت الحساب للرئيس القادم دونالد ترامب، أو مفاعيل دويّ صافرات الإنذار، التي جعلت الحياة في حيفا والجوار حياةً لا تُطاق، وربما فداحة الخسائر الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي، ومحكمة الجنايات واشتداد العزلة الدولية وغيرها، إلا أن هناك أمراً أهم، وقع في موضع حسّاس، وأصاب عصباً شديد الالتهاب، في حيّزٍ يخصّ سر أسرار المعبد الأمني المقفل بالضبّة والمفتاح، وهو سرّ لن يُكشف الغطاء عنه إلا بعد مرور عدة أجيال.

وأحسب أن هذا الشيء الذي لا يمكن الجهر به، سيما في هذه المرحلة، هو سوء تقدير الموقف إزاء قدرات حزب الله على التعافي بسرعة بعد كل ما أصابه قبيْل شنّ الحرب البرّية، وأيضاً ذلك الفشل المدوّي في تجاوز خمس فرق مدجّجة خط القرى الأمامية مسافة تقل عن ثلاثة أميال، طوال نحو 63 يوماً أيقظت في الذاكرة المثخنة كوابيس الغرق في المستنقع اللبناني، وحدّث ولا حرج عن انكشاف أكاذيب الناطق العسكري شبيه طيّب الذكر أحمد سعيد، حيث الصواريخ يتم إسقاطها أو تسقط في أماكن مفتوحة (دمّرت عشرة آلاف منزل)، وحيث الخسائر البشرية قلّما تزيد عن إصابةٍ واحدةٍ بجروح طفيفة. وبالتالي، باتت من العبث محاولة الوقوف على ذلك العصب الحسّاس قبل انقضاء زمن كافٍ، وبعد أن تضع الحرب أوزارها، إلا أن ما أشار اليه بعض الإعلام العبري "ليس في وسع الجيش المنهك مواصلة القتال" لسببٍ لم يُشر إليه، هو بيت القصيد، أو قل مربط الفرس على أي حال.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي