ما الذي أغضب صوماليلاند؟

مثلت زيارة رئيس الحكومة الصومالية حمزة عبدي برّي إلى مدينة لاسعانود (عاصمة إقليم خاتمو) في 11 إبريل/ نيسان الجاري منعطفاً جديداً يعقد المشهد السياسي في الصومال، وأثارت عاصفة من ردود فعل محلية، وأغضبت إقليم صوماليلاند. ولم تحظ الزيارة بترحيب من المعارضة السياسية بقدر ما حظيت بتأييد شعبي من سكان الإقليم، باعتبار أن الخطوة شرعنت الإدارة الذاتية الجديدة التي انبثقت من رحم المعارك الطاحنة والأزمة التي شهدتها مدينة لاسعانود عام 2023 بين مليشيات العشيرة (طولبهنتي) وقوات صوماليلاند، وأفضت إلى انتهاء سيطرة صوماليلاند على المدينة منذ 2003، وولادة نظام شبه ذاتي مستقل يزعم الانفصال عن صوماليلاند، ويرغب الانضمام طوعاً إلى النظام الفيدرالي في الصومال الذي تأسّس بميثاق دستور عام 2012 غير المستكمل بعد.
للزيارة ما لها من الأبعاد السياسية والتداعيات الأمنية في المنطقة، لكن الغلطة السياسية والأمنية التي تحسب على صوماليلاند تتمثل في نهجها الدائم في عسكرة مشروعها الانفصالي، وفرض أمر الواقع بقوة السلاح والنار في الداخل. ومنذ سنوات كان إقليم سول عين العاصفة التي ستهدد كيان صوماليلاند، من إقليم يطمح في اعتراف دولي إلى إقليم يبحث عن المصالحة داخلياً ومع القبائل التي تعد المكون الرئيس لصوماليلاند، فما كان بالإمكان حله بالطرق السلمية وبالإقناع لجأ الرئيس السابق موسى بيحي إلى عسكرة خلافاته مع عشيرة طولبهنتي التي احتجت الممارسات الأمنية لقوات صوماليلاند في مدينة لاسعانود التي أضحت مرتعاً للاغتيالات التي تطاول النخب السياسية ومعارضي إدارة هرجيسا، ما فجّر لاحقاً حربا استمرت أشهراً بين العشيرة وإدارة هرجيسا وانتهى المطاف أخيرا (أغسطس/ أب 2023) بانفصال الإقليم من صوماليلاند بعد طردها عنوة وأسر أكثر من 300 عسكري من قواتها. وأفرزت سياسة الكي بالنار نتيجة لا ترضي حاضر صوماليلاند بقدر ما أنعشت آمال الحكومة الفيدرالية في دمج إقليم خاتمو بالنظام الفيدرالي، ما يبعثر أوراق صوماليلاند الانفصالية، ويضعها أمام أسئلة الحاضر، كيف تبرر انفصالها من الصومال إذا هي ترفض انفصال الإقليم ذي الكثافة السكانية من عشيرة طولبهنتي؟
انتهج الرؤساء في الحكومات الصومالية منذ ولادة الجمهورية الصومالية الثالثة (ابتداء من 2001) رفض مبرّرات الانفصال لإقليم صوماليلاند تحت أي ظرفٍ كان، بعدم قبول سردية المظلومية القائمة على أن نظام سياد برّي ارتكب مجازر في هرجيسا، باعتبار أن هذه المجازر لم تكن استثناء فقط لمناطق صوماليلاند، وما يوحّد شطري البلاد (الشمال والجنوب) أكثر مما يفرّقهما، فهذه السياسة نفسها تنتهجها أرض الصومال حالياً في رفضها كيان "خاتمو" المنفصل عنها، بحجّة أن هذه المنطقة جزءٌ من المناطق التي خضعت للاستعمار البريطاني، ولا تزال عشيرة طولبهنتي تعد جزءاً من النظام السياسي والعشائري فيها، الذي ولد من رحم ميثاق بورما عام 1993 بين العشائر القاطنة في صوماليلاند، لكن توافق النهجين بين مقديشو وهرجيسا يعطي دلالة واحدة، مفادها بأن لا أحد يستطيع ضمّ الآخر بالقمع والسياسات الكيدية بحجة التاريخ والجغرافيا والهوية، وأن مسار التفاوض والإقناع هو البديل في احتضان الآخر وعدم تصعيد المواقف لكي لا تذهب الأمور إلى أبعد، وتبني مواقف تدفع صوماليلاند حتى إلى استدعاء ألدّ أعداء الشعوب عربياً وإسلامياً.
خلط تكنيك جذب الأطراف من الحكومة الفيدرالية أوراق صوماليلاند في فرض رؤيتها خارجياً بذريعة أن اعترافها حقٌّ مشروع إقليمياً وعالمياً، نتيجة التماسك الداخلي وسيادتها على مناطقها
خلط تكنيك جذب الأطراف من الحكومة الفيدرالية أوراق صوماليلاند في فرض رؤيتها خارجياً بذريعة أن اعترافها حقٌّ مشروع إقليمياً وعالمياً، نتيجة التماسك الداخلي وسيادتها على مناطقها. وتتعارض هذه الرؤية اليوم مع زيارة رئيس الحكومة الفيدرالية حمزة عبدي بري الذي قال أمام حشد من سكان لاسعانود إن زيارته تهدف إلى "تعزيز الوحدة والسلام في البلاد"، ما يجعل ادعاء إن إقليم سول ما زال جزءاً من صوماليلاند غير واقعي، ويتماشي مع حقيقة أن مقديشو لا تستطيع فرض هيمنتها على هرجيسا، والأخيرة هي أيضاً لا تستطيع أن تمدّ يديها إلى مدينة لاسعانود، سياسة التصادم واللوبيات والذباب الإلكترني تستنزف فقط جهداً من الموارد المحلية وتُذكي المواقف، لتبرير انفصال أو تسويغ وحدة لم يبق من أوصالها إلا النزر اليسير نتيجة النظام الفيدرالي الذي بات أداة تقسيم وتمزيق ويثير الأزمات، ومحفّزاً لولادة كيانات أشبه بـ"صوماليلاند" التي اعتُبر إعلانها الانسحاب من المباحثات مع مقديشو ردّاً على هذه الزيارة بمثابة الرصاصة الأخيرة لمفاوضات عقيمة لم تجد نفعاً منذ عام 2012، وأصبحت مجرّد استهلاك إعلامي وسياسي فقط بين طرفين لا يريدان التقدّم إلى الأمام من خلال إبداء التنازل، حجر الزاوية الذي كان من الصعب تجاوزه تمثل في رغبة هرجيسا بالانفصال، بينما تجسّد مطلب مقديشو في إذابة الجليد وتضميد الجروح، لم تعلق حكومة مقديشو على قرار الانسحاب من المباحثات من صوماليلاند، لكن وزير الخارجية الصومالي، أحمد معلم فقي، الذي كان من بين الوفد الذي رافق حمزة بري إلى لاسعانود، عدَّ هذه الزيارة بأنها زلزال قضى على حلم صوماليلاند، برغم أن بعض الكتّاب الصوماليين من هرجيسا يعتبرون تصريحاته "عدائية"، إغلاق هرجسيا باب التفاوض لا يخدم في مصلحتها ومشروعها للبحث عن الاعتراف، برغم أنه يعطي مبرّراً للحكومة الصومالية للاستمرار في نهجها السياسي بشأن أن هرجيسا تعدّ إقليماً لا يتجزّأ من البلاد، كما أن العودة إلى التفاوض من قبل صوماليلاند بسهولة تجعل سياستها غير متزنة في مواجهة مقديشو، التي تتهمها بأنها فاشلة ولا تستطيع إحراز تقدم أمني وسياسي وتروج الأخبار التي تشاع من قبل الذباب الإلكتروني بأن مقديشو باتت محاصرة من تخومها من حركة الشباب، موجة إعلامية مغرضة تنتشر كالنار في الهشيم في المنصّات الرقمية، لكنها في الواقع مجرّد نسج خيال عابر في الهواء الطلق.
حققت صوماليلاند تقدّماً أمنياً وسياسياً لا تخطئه العين منذ عقود، في ظل شيوع اضطرابات أمنية وسياسية في محيطها الجغرافي
حقّقت صوماليلاند تقدّماً أمنياً وسياسياً لا تخطئه العين منذ عقود، في ظل شيوع اضطرابات أمنية وسياسية في محيطها الجغرافي، لكن ذلك لا يعني حصر هذا الإنجاز الأمني والسياسي، ووصفه بالحالة الشاذّة لهرجيسا، ما شهدته مقديشو في العامين الأخيرين من هدوء أمني بعد تراجع هجمات حركة الشباب، وفق تقرير لمؤشّر الإرهاب العالمي 2025، بمعدل 24%، حيث تراجع أعداد ضحايا هجمات حركة الشباب في الصومال من 512 عام 2023 إلى 387 عام 2024، يعكس أيضاً استجابة جديرة بالإشادة لمواجهة المخاطر الأمنية، كما أن بدء تسجيل الناخبين منتصف شهر إبريل/ نيسان الحالي لأول مرّة منذ 56 عاماً في مقديشو للمشاركة في انتخابات البلديات يونيو/ حزيران المقبل خطوة تعدّ تقدّماً سياسياً كبيراً لتجاوز الانتخابات التقليدية غير المباشرة. ولهذا، من الأهمية بمكان قراءة هذه الإنجازات الأمنية والسياسية في الصومال خطوة لانتشاله من قاع الفوضى.
أخيراً، يمكن أن تفسّر زيارة رئيس الحكومة الفيدرالية إلى لاسعانود بأنها حركة سياسية لإنعاش قلب مريض في العناية المركزة، لتوفير الخدمات الأساسية للإقليم، تمهيداً لمشاركة سياسية فعالة، وأن لا تضيف أيضاً هذه الزيارة الجروح المفتوحة في صوماليلاند مزيداً من المِلح، لكن الزيارة إذا وظفتها مقديشو لممارسة نوع من الضغط على صوماليلاند لتفويت فرص جهودها للبحث عن الاعتراف ستنحو هرجيسا نحو قرارات خطيرة لا تُحمد عقباها، فتضيع هي الأخرى ولن تستفيد وتبقى في حلقة مفرغة بلا عنوان.

