ماكرون والسيسي .. حقوق الإنسان في الإدراك الفرنسي

ماكرون والسيسي .. حقوق الإنسان في الإدراك الفرنسي

20 ديسمبر 2020
+ الخط -

أتحفنا الرّئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمناسبة زيارة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي باريس، بأفكار يجب الوقوف عندها، لأنّها تعكس الإدراك الفرنسي للآخر، أيّا كان، خصوصا إذا كان مسلما أو عربيا، ولأنّها، أيضا، حلقة في مسلسل حرّية التّعبير، وفق منظورها، بعيدا عن أخلاقيات قيم كرامة الإنسان أو حقوقه، إذا لم يكن غربيا، ليتمّ إبعادها، تماما، عن مشروطية الرّبط مع اتفاقيات بتوريد الأسلحة إلى نظام القاهرة الذي تشترك باريس معه في أكثر من ملّف في شرق المتوسط وليبيا، إضافة إلى تطابق الرؤى بشأن مفاهيم الإرهاب وعلاقة ذلك بالتطرّف أو الانعزالية التي تريد فرنسا كبح جماحها بميثاق جمهوري، ستفرضه ضمن حزمة إجراءات التّضييق حيال المسلمين، التي تتضمّن قانون الأمن الشّامل المثير للجدل داخل المعارضة في فرنسا نفسها.

لا يمكن النّظر إلى مواقف الرّئيس الفرنسي، حيال المسلمين وقضايا الشّرق الأوسط، إلا أنّها عاكسة للإدراك الفرنسي الاستشراقي للمنطقة، الغارق في جذور التّاريخ الحامل مغامرات الحروب الصّليبية، حملة نابليون على مصر والاستيطان الفرنسي للجزائر، أو انتدابها على بقية الدول العربية في المشرق والمغرب، وهي تسترجع تلك الذاكرة، سواء في التعامل مع المنطقة، باعتبارها فضاء جغرافيا، أو باعتبارها هوية ودينا، لكن بخلفية العداوة وليس التعاون أو الشّراكة التي تريد نقلها إلى الخارج، في علاقاتها مع المشرق والمغرب العربيين في العقود الأخيرة.

ثمّة عملية مقايضة بين أنظمة المنطقة وفرنسا، بل والغرب أيضا

وعلى المستوى الاستراتيجي، ثمّة عملية مقايضة بين أنظمة المنطقة وفرنسا، بل والغرب، إذا نظرنا إلى الأمر برؤية شاملة، حيث تتضمّن الصّفقة ضمان استمرار تلك الأنظمة، في الطّرف الأوّل من العملية، على الرغم من المؤاخذات على سياساتها العامّة، في المجالات كافة، وبخاصة تلك التي تعتبر قوى الغرب أنها تمسّ بحقوق الإنسان، في حين أنّ الطّرف الثّاني من الصّفقة يشير إلى ضمان تلك الأنظمة جملة من الأمور، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو أمني/ دفاعي، لتكون المنطقة سوقا لمنتجات الغرب واستثماراته، من ناحية، وقادرة على احتواء مخاطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية، من ناحية أخرى. 

بالنّتيجة، لا غرو إذا فكّكت فرنسا الرّباط بين منظومة حقوق الإنسان وبيع الأسلحة لمصر، لأنّها، أصلا، تفكّر وفق المبادئ الرّأسمالية التي تقتضي، عند منظّريها من الاقتصاديين، أنّها، بين دورتي الكساد والنمو، تحتاج إلى أزمات وصراعات تبيع من خلالها أسلحة تعيد بالدورتين توازن الرّأسمالية والجميع يعلم، الآن، الإشكالات الاقتصادية التي تطرحها الجائحة، وقبلها أداء الاقتصاد الفرنسي، ما يفسر اتجاه الرئيس الفرنسي الى تشديد القبضة على الاحتجاجات الاجتماعية في بلاده، والتّقليل، في التّعامل مع الخارج، من الارتكاز على أخلاقيات حقوق الإنسان والدّيمقراطية اللتين حاولت، من قبل، جعلهما من مشروطيات الاستثمار والتعاون الاقتصادي وبيع الأسلحة.

قد يشكّك أحد فيما تقدّم به السطور أعلاه من الرّبط بين الرّأسمالية وتلك الظّروف الجديدة التي يتم التعامل من خلالها مع منظومة حقوق الإنسان، في الحالة الفرنسية. ولكن، في سبيل الإقناع، لن نحتاج إلى أكثر من مؤشّر جرائم فرنسا في تاريخها الاستعماري/ الاستيطاني في القارّة الأفريقية، حيث لا نجد بلدا واحدا، ممّن تعمل فرنسا على نشر نفوذها فيها، تنتشر فيه قيم الديمقراطية، الحرية وحقوق الإنسان، بل ولا التقدم، التطور والنمو، ودليل ذلك بلدان منظّمة الفرانكفونية ومجموعة الفرنك الأفريقي التي لا تزال ترزح تحت نير إشكالات الفقر، الحروب الأهلية والانقلابات، فضلا عن الجرائم ضد الإنسانية، وذلك كله من بركات الوجود الفرنسي فيها، وتأثير فرنسا في مساراتها السياسية، الاقتصادية والأمنية/ الدّفاعية، لتجعل منها شبه دول، مناطق رمادية ومناطق ملاذ للجريمة المنظمة، التهريب والإرهاب.

لم يخرج ماكرون، بالنّسبة للإدراك الفرنسي لحقوق الإنسان والرّؤية للآخر، عن ثبات السياسة الفرنسية البتة

نصل، هنا، إلى مربط الفرس للحديث حول حرّية التّعبير التّي ما فتئت فرنسا تعتبرها محور رسالتها الحضارية في العالم، ولكن من خلال إدراكها تلك الحرية، بما يخدم سياساتها، تارة، وبما يدور في فلك مصالحها الأيديولوجية، تارّاتٍ أخرى، لتشجّع الرّسوم المسيئة والتّضييق على المسلمين في فرنسا، باسم تلك الحرّية وتعارض تلك الحرية، في الوقت نفسه، إذا تعلّق الأمر بالمعارضة لقانون الأمن الشّامل أو تلك الرّسوم، والحقيقة أنّ ذلك كلّه ذرّ للرّماد في العيون، وخدمة لأغراض انتخابية، في أفق رئاسيات 2022، وتحقيقا لمصالح الرّأسماليين الفرنسيين الذين يسيطرون على الإعلام، وعلى دواليب الثّروة، بالمعنى الصّريح والكامل للسيطرة، وبمؤشرات الأرقام/ المداخيل أو عدم المساواة التي تنتشر في المدن والأرياف الفرنسية، وعلى الطبقات المهمشة من المجتمع التي يمثلها، خير تمثيل في قيامها للدفاع عن حقوقها، السترات الصفراء واليسار المتطرّف. كما تعارض فرنسا تلك الحرّية في المناطق التي تعتبر أنّها مناطق نفوذ لها، وهي حجتها في إرسال الســّلاح والجنود إلى السّاحل أو تشجيع تجاوزاتٍ على حقوق الإنسان، لأنّها تعتبر ذلك من سبيل احتواء قيم الإرهاب والأصولية التي تراها أعلى من قيم الدّفاع عن المسجونين، الإعدامات أو الاختفاء القسري، بل تتجاوب مع من يحمل الخطاب الذي يبرّر لها تلك الحرية على غرار خطاب السّيسي وعباراته التي وقف فيها مع فرنسا التي تتعرّض، زعما، للمقاطعة ليبادله ماكرون عبارات الشكر له على مساندته وتبريره تجاوزاته في حق مقدسات المسلمين.

بالنّتيجة، لم يخرج ماكرون، بالنّسبة للإدراك الفرنسي لحقوق الإنسان والرّؤية للآخر، عن ثبات السياسة الفرنسية ألبتة، بل بقي وفيّا للمسار وللسياق، باعتبار أنّ فرنسا لم تغيّر سلوكاتها في التّعامل مع خلفية الإدراك بالدُّونية للآخر، حتّى لا يفرح السّيسي أو غيره بأن فرنسا تسانده، أو تبيعه السلاح، لأنّ فرنسا لا تفعل ذلك، ولا الغرب الرأسمالي كلُّه، إلا لإرضاء النخبة التي تقف من وراء رسم ذلك الإدراك، وجعله فعلا سياسيا ثابتا لا يتغيّر، يحوّله الإعلاميون والسّياسيون إلى خطاب ورسالة، بل وإستراتيجية، في حين أنّه لا يمثّل إلاّ سياقا للتحرّك، لا يتغيّر، نابعا من تلك الرّؤية، واتباعا لتلك الأهداف التي لا تتغيّر، أبدا.

 لا نجد بلداً واحداً، ممّن تعمل فرنسا على نشر نفوذها فيها، تنتشر فيه قيم الديمقراطية، الحرية وحقوق الإنسان، بل ولا التقدّم

يتبيّن لنا، مما ورد أعلاه، زيف القيم التي تدّعي فرنسا الدفاع عنها، في ما يخصُّ الديمقراطية، الحكامة، حقوق الإنسان أو المساواة والعدل، لتكون تلك الثلاثية المسجّلة في شعار الجمهورية، على أبواب كل المؤسسات الفرنسية، "حرية، مساواة وأخوّة"، لأنّ تلك القيم، في الحقيقة، نابعة من سلّم التمتع أو الاستئثار بالثّروة والانتماء إلى النّخبة، وهو عين ما يندّد به الفرنسيون العاديون، منذ عقود، ويندّد به من تدّعي فرنسا أنّها تساعدهم أو تقف إلى جانبهم من الأفارقة ودول منطقتنا، والذين ما فتئت تعاملهم، جميعا، بفوقيةٍ، وتنال من ثرواتهم، بل تبدّدها كما تعمل على التّحالف مع الاستبداد، لضمان بقاء دائرة الاستعمار الجديد مُكرّسةً لعدم التّوازن والتّبعية، وفق مفهوم الاقتصادي المصري الرّاحل سمير أمين، في نظريته المعروفة "المركز والهامش، لتكون فرنسا، والغرب معها، المركز، وبقية العالم، التابع والهامش، أي هرمية، مهيمن على العالم وتابع، مبادر وموضوع للمبادرات، في علاقات دولية غير متوازنة تماما، وفي منطقتنا، بصفة خاصّة، مع وجود الكيان الصهيوني والنفط.

تسقط حرية التعبير، وفق المنظور الفرنسي أو الغربي، عموما، وتضمحل قيمتها، لأنّ الهدف، من تكريسها ليس تحقيق قيم الحرية والتعبير، بل تتبع مصالح فرنسا وقيمها المعارضة للقيم الحقيقية للحرية والتّعبير، ولنصل، حقيقة لا مجازا، إلى صورة فرنسا المشوهة، ووجوب الوقوف لمحاربتها بالمقاطعة وبالتنديد العلني لتعزيز احترام الإنسان وقيم حريته، في كل مكان وللكل، من دون تفريق، على قاعدة أي من الحجج التي تريد فرنسا، زعما، جعلها قاعدة لضمان تلك القيم من لون محدّد أو دين معين، من دون بقية البشرية.