ماكرون والإسلام "الإرهابي"

ماكرون والإسلام "الإرهابي"

26 أكتوبر 2020
+ الخط -

الربط التعسفي بين الإسلام والإرهاب، حين يصدر عن سياسيين كبار أو مثقفين مرموقين في الغرب؛ أقصد في الدول الغربية التي كانت تحتل بلاد العرب والمسلمين قبل عقود قليلة، لا يختلف موضوعياً عن الربط التعسفي بين الإسلام والإرهاب الذي تمارسه تنظيمات مسلحة وتبرّره بنسبته إلى الدين أو بادعائها الدفاع عن الدين، ففي الحالتين يصدر هذا الربط جوهرياً من خانة الصراع الحضاري، لا من خانة الدين: عقيدة أو شعائر أو حتى انتساباً بالهوية.

هذا بالضبط ما تشي به كلمات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وهو يعلن مواجهة "الإرهاب الإسلامي" من دون هوادة. إنه يقول بصراحة إنه لا يستهدف الإرهاب أياً كان، لأنه سلوكٌ مدان، بل يستهدف تحديداً ذلك الإرهاب الذي يقوم به مسلمون، والكلمة هنا ذات مدلولات ثقافية لا عقائدية، كأنما يطرح الإسلام على أنه ضدٌ لقيم فرنسا المفترضة في الحرية والعدالة والمساواة. ألم يقل ماكرون، وهو يؤبّن المدرس صامويل باتي الذي قُتل في أحد شوارع باريس على خلفية إعادة عرضه "الرسوم المسيئة" للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، "باتي قُتل لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا.. لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات، وإن تقهقر بعضهم، سنقدم كل الفرص التي على الجمهورية أن تقدمها لشبابها".

التعامل مع الغرب ودوله المؤثره ما يزال مؤدلجاً بعمق: ليس فقط بالنسبة إلى تلك التنظيمات والتيارات والأفكار التي تؤدلج التراث والماضي، بل أيضاً بالنسبة للتيار المنافس

التنظيمات الإرهابية هي الأخرى تقدّم طروحات حضارية، تغازل طموح العرب والمسلمين بالنهوض الحضاري واللحاق بركب الأمم المتقدّمة، وتستثير غضبهم من الدول الاستعمارية التي كانت تحتل بلادهم عسكرياً، والإمبريالية التي ما تزال تتحكم في قراراتها وتسيطر على خيراتها، ثم تجد في التاريخ المستند إلى الدين ضالّتها، فتستعيد مقولة تراثية مفادها "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمن ابتغى العزة بغيره أذله الله". وهذا يعني أن الإسلام عند الفريقين المتخاصمين: الإرهابيين الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، والمتكلمين باسم الغرب من سياسيين ومفكرين، ليس إلا عنواناً للخلاف، أما جوهر الخلاف فأمر آخر، حضاري ونهضوي.

وهذا يعني أن الخلاف الدائر حالياً، والذي انزلق خطاب الرئيس ماكرون في أتونه، لا علاقة له بالتاريخ وحكاياه من حروبٍ صليبيةٍ وتوسعية ودار حرب ودار سلام. إنه أمر "حديث" يبدأ مع الاستعمار العسكري الأوروبي للبلاد العربية، الذي لم تنته آثاره بعد، ولم تتجاوزه البلاد العربية، حتى وإن كان انتهى فعلا مباشرا ملموسا. وإذا كانت أوروبا ترغب بتجاوزه فعلاً، والتصدّي للإرهاب الإسلامي، حسب التسمية التي تبناها الرئيس الفرنسي، فإن عليها ابتداءً أن تنهي النتائج المستمرة للإمبريالية الغربية على حياة العرب والمسلمين وأجيالهم الجديدة، وذلك بأن تتخلص، هي أولاً، من تلك الأيديولوجية الإمبريالية التي ما تزال تحكم سياساتها ومنطقها في العالم منذ أزيد من قرن ونصف.

لا يصح الاعتقاد بأن أسباب الأزمة الحضارية العربية التي تجلى عنها تلك التنظيمات والممارسات الإرهابية خارجية محضة

على الجانب العربي والإسلامي، يجب التنبيه إلى أن التعامل مع الغرب ودوله المؤثره ما يزال هو الآخر مؤدلجاً بعمق: ليس فقط بالنسبة إلى تلك التنظيمات والتيارات والأفكار التي تؤدلج التراث والماضي، وتعتبرهما وصفة سحرية للنهوض الحضاري، بل أيضاً بالنسبة للتيار المنافس الذي يؤدلج بدوره ما يُفترض أنها "القيم الغربية"، ويعتبرها مرشداً بديلاً للنهوض، وهو الحال الذي جعل العرب على مر هذه العقود رهناً للتبعية لآخرين: سواء عاشوا في زمان سابق، أو يعيشون في مكان آخر.

وهكذا، فإذا كانت فكرة النهضة بالإسلام ظلت حاضرة في جهود الحركات والتنظيمات والشخصيات الفكرية "الإسلامية"، منذ العقود الأولى من القرن العشرين، على الرغم من أنها تنوعت في فهمها وتفسيرها وكيفية طرحها تلك الفكرة، فإن ما أضافته الحركات الإرهابية التي تنسب نفسها للإسلام أنها استعادت الشكل التاريخي للمسلمين السابقين، بما في ذلك شكل القتل في حروبهم؛ بجزّ الرؤوس، كما وقع تماماً في باريس. إنها إذن ممارسات تتذرع بالتاريخ والدين والتراث، من أجل أن تقدّم حلاً لمشكلة راهنة، هي الانكسار الحضاري أمام الإمبريالية الغربية.

الخلاف الذي انزلق خطاب ماكرون في أتونه لا علاقة له بالتاريخ وحكاياه من حروبٍ صليبيةٍ وتوسعية ودار حرب ودار سلام

ومن فائض القول إنه لا يصح الاعتقاد بأن أسباب الأزمة الحضارية العربية التي تجلى عنها تلك التنظيمات والممارسات الإرهابية، إنما هي خارجية محضة، فالتأخر والتخلّف، بالنسبة لأية أمة، لا بد أن يكون ذا جذر داخلي، وهو في الحالة العربية يقوم على أبعاد ثقافية مركّبة، لكن لا يمكن غض الطرف عن أن العوامل الخارجية، متمثلة بالقوى الإمبريالية، لها دورها البارز والرئيسي، إذ كما استمر الاستعمار حاضراً، وإنْ بشكله غير العسكري المباشر، فقد استمرّت آليات الرد الأيديولوجي العربي عليه كما هي، على مدار العقود الطويلة التالية لخروجه، في السياقات السياسية والثقافية، في مساري: أدلجة الماضي وأدلجة الآخر.

الحال إذن أن هذا الغرب الذي ينطق ماكرون بقيمه، ويجعله ضدّاً للإرهاب "الإسلامي"، على حد تعبيره، ليس بريئاً من خلق هذا الإرهاب، لا بل الأصحّ أنه المسبب الأول له. والغريب أنه بينما تشاركنا دول الغرب في دفع ثمنه، وتلقي ضرباته، فإنها تصر على عدم الاعتراف بمساهمتها التاريخية في صنعه، وتقدّم نفسها مجرّد ضحية له، ما يعني عدم جدّيتها في محاربته وتجفيف منابعه، إذ ليس معقولاً أن رئيساً لدولة كبرى، مثل فرنسا، لديه من دون شك مستشارون يتوفرون على إدراك فكري وتاريخي ومستقبلي عميق، لا يعرف أن التخلص من هذا الإرهاب لا يتأتى بالتحلل من المسؤولية التاريخية عن وجوده، والتأخر عن معالجة جذوره الحضارية، لصالح الاكتفاء بالتصدي لنتائجه والسلوكيات المرتبطة به وحسب.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.