ماكرون وأفريقيا .. ومجد فرنسي غابر

ماكرون وأفريقيا .. ومجد فرنسي غابر

21 فبراير 2022

ماكرون يلقي كلمته في القمة الأوروبية الأفريقية في بروكسل (18/2/2022/فرانس برس)

+ الخط -

يجلس الرئيس الفرنسي، ماكرون، خلف قادة أفريقيا ممن حضروا القمة الأوروبية الأفريقية وكأنه يراقب تلاميذه النجباء، وهم يدلون بآخر تصريحاتهم. يبدو عليه توتر استطاع القناع الواقي من كورونا أن يُخفي كثيراً من قسماته المرسومة على وجهه، ومع ذلك فضحته عيناه وكثير من حركاته.
لم يتعافَ الرجل من بقايا إهانةٍ وجهها له القيصر الروسي، بوتين، في الزيارة التي أدّاها إلى الكرملين أخيراً، للتوسّط والتهدئة بين روسيا وأوكرانيا. عند انتهاء النقطة الإعلامية الوجيزة، وكانت المسافة بين الرجلين دالّة على بعد وجهات النظر، توجه بوتين إلى رواق مكتبه، وتعمّد الالتفات إلى ماكرون ودعاه، أو الاصح أمره، أن يتبعه. كانت إشارتا اليد والرأس كافيتين أن يجعلاه يقتفي أثره وحيداً مطأطئ الرأس. الرسالة بليغة في تجاوزها الأعراف الدبلوماسية التي تبدو فيها عادة المجاملات ملطفة، لحجم الاختلاف، لكنّ بوتين اختار أن يذهب إلى مشهدية الإهانة، حتى لا يظل مجرد اختلاف وجهات النظر حبيس الكواليس. ثمّة أمثلة عديدة في اللعب بالبروتوكولات، وجعلها جزءاً من حروب حقيقية تتوسّل بالدبلوماسية كثيراً من لطفها وإذلالها أيضاً.
ربما أخطأ ماكرون تحديد التوقيت، وقد يكون استدرج إلى هذا الموعد، وفي هذا التوقيت بالذات. كانت أحداث مالي حاضرة، خصوصاً أنّ أوساطاً فرنسية عديدة ألمحت صراحة إلى الدور الروسي في مالي، وندّدت بذراعها  العسكري القوي، "فاغنر" هناك. تلقت فرنسا صفعة قوية من الانقلابيين في هذا البلد. وثمّة حالة تحرّش عنيف بها من هؤلاء، يدعمهم جزء واسع من الرأي العام الغاضب، والذي لم يعد ينظر إلى فرنسا، وقواتها تحديداً، بعين الرضا، على اعتبارها منقذاً لهم، وهي التي كما يقول هؤلاء "جاءت لنهب مالي، ولم تقاوم الإرهاب بما يكفي".

نشر مؤرّخون وثائق تفيد تورّط ميتران في حرب الإبادة في رواندا

عندما قدم ما يناهز 55 قائداً أفريقياً إلى القمة، كان الشرط الأوروبي واضحاً، وقد بلّغ لهم: لن نعينكم، حتى حلّ مشكلات الانقلابات التي عادت بقوة في أفريقيا بالذات: مالي، بوركينا فاسو، السودان، غينيا .. إلخ، إلى جانب القرصنة والإرهاب .. إلخ، لكنّ الأفارقة يدركون أنّها أمراض مزمنة، لا ينكرون أنّ الأوروبيين أنفسهم ساهموا فيها. حرب الإبادة التي شهدتها رواندا هي حالياً موضوع تهم خطيرة سيحاكم من أجلها مسؤول الخارجية الفرنسية، هوبرت فيدرين، قريباً. لقد نشر مؤرّخون عديدون وثائق تفيد تورّط الرئيس الراحل ميتران، بشكل أو بآخر، في تلك الحرب الذي ظلت وصماً مؤلماً في جبين الإنسانية.
لم يشارك الرئيس التونسي قيس سعيّد في أغلب القمم الدولية التي انعقدت، بما فيها القمة الأفريقية، واكتفى لا سيما، لانتشار الوباء، وأسباب أخرى، بالمشاركة عن بعد، أو بإيفاد وزير الخارجية حيناً ورئيس الحكومة حيناً آخر. لذلك، تطلع كثيرون إلى حضوره هذه المرّة. من خلال التصريحات والخطاب الذي وصل إلى الإعلام، كان محاصراً بعقدةٍ ذاتية، لم ينجح في تجاوزها، وقد لازمته منذ انقلاب 25 يوليو (تموز 2021)، وقد عبّر عنها حين التقى عضو الكونغرس الأميركي كريس مورفي، ونشرها في الحين على حساباته في مواقع التواصل: "لست دكتاتوراً .."، وكرّر العبارة تقريباً، عندما التقى أيضاً أربعة صحافيين من "نيويورك تايمز" كان الأمن التونسي قد أوقفهم، بعد أقل من أسبوع على الانقلاب .. "لقد تصرّفت وفق الدستور، ولست دكتاتوراً".

هاجس الرئيس التونسي مزدوج: نفي تهمة الدكتاتورية، والحيلولة دون أيٍّ من أشكال العقاب الاقتصادي، ولو المحدود، على البلاد

ذهب الرئيس سعيّد، هذه المرّة، إلى هذه القمة، بعد أقل من أسبوع من حلّه المجلس الأعلى للقضاء، وما أثاره من ردود أفعال، حادّة أحياناً من سفراء دول نافذة في الاتحاد الأوروبي أو مسؤول العلاقات الخارجية فيه، جوزف بوريل، الذي لمح، صراحةً، في لقاء له مع قناة تلفزيونية أوروبية إلى إمكانية تعليق المساعدات المالية إلى تونس. لذا كان هاجس الرئيس التونسي مزدوجاً: نفي تهمة الدكتاتورية، والحيلولة دون أيٍّ من أشكال العقاب الاقتصادي، ولو المحدود، على البلاد. لذا لم يتردّد لحظة حينما وجهت له دعوة الحضور، فيما فتورٌ رسميٌّ بينه وماكرون. ومع ذلك، لم يفوّت سعيد، كعادة الشعبويين، الفرصة للظهور بمظهر وريث زعماء الستينيات في معركة التحرّر الوطني، حينما نفخ في هذا الخطاب "الأفريقاني" الذي يؤكد أنّ أفريقيا للأفريقيين .. ثمّة صوت العقيد معمّر القذافي يتردّد متخفياً في ما قال سعيد، وهو بهذا لا يوجّه رسائله إلى الأفارقة، بل إلى أنصاره في تونس الذين يرونه وريثاً لزعماء أفارقة، حرصوا على تأكيد "وطنيّتهم العالية ضد أي تدخل  أجنبي". أما الرسالة الثانية فهي موجهة إلى الاتحاد الأوروبي، وقد أزعجته بيانات الاتحاد التي تحثّه على استئناف المسار الديمقراطي، والتركيز على الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدّد تونس بأزمة حادّة.
ومع كلّ هذا الصخب، لن تكون لهذه القمة آثار ملموسة، مثلما تعودنا، خصوصاً أنّ فرنسا لم تعد اللاعب الوحيد في القارّة الأفريقية. ثمة منافسة شرسة تقودها الصين والولايات المتحدة، والقادم أخيراً، لكن متسرّعاً، روسيا، فضلاً عن قوى أخرى تبحث بدورها عن موطئ قدم في القارّة؛ تركيا وإيران، وغيرهما.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.