مارادونا .. صقيع الأضواء و"دفء" السموم

مارادونا .. صقيع الأضواء و"دفء" السموم

28 نوفمبر 2020
+ الخط -

عاش بطل كرة القدم، دييغو مارادونا، ملء السمع والبصر، عقودا، وتمتّع بجاذبية نجاحٍ ألهمت ما لا يُحصى من معجبيه، وكان من الطبيعي أن يتصدّر خبر وفاته، مساء الأربعاء الماضي، سائر المنصّات ومنابر الاتصال، فقد اقترن اسم بلاده الأرجنتين به منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وخصوصا حين قاد، في 1986، فريق بلاده للفوز في المباراة الشهيرة مع إنكلترا التي كانت قد سيطرت مجدّدا على جزر فوكلاند الأرجنتينية، (بأكثر من ارتباطها باسم الكاتب خورخي بورخيس)، كما ارتبط اسمه ببطولة كأس العالم، المناسبة التي تستحوذ كل أربع سنوات على اهتمام أكبر كتلة بشرية مجتمعة على كوكبنا. 
وقد حاز الرجل على شهرةٍ عالمثالثيةٍ لانتمائه إلى العالم الأميركي اللاتيني، وثانيا لعلاقة صداقة ربطته بفيديل كاسترو الذي استقبله في هافانا كصديق، وثالثا لرفعه باعتزاز راية فلسطين في دبي، في مايو/ أيار 2013، خلال مشاركته في مباراةٍ استعراضيةٍ بكرة القدم على هامش افتتاح تصفيات كرة القدم الموحدة للأولمبياد الخاص (لذوي الاحتياجات الخاصة). وعرف بصداقاته العربية، ومنها صداقته مع الأمير علي بن الحسين، أرفع مسؤول رياضي أردني، والذي نعى مارادونا بكلماتٍ مؤثرةٍ ما أن ذاع خبر وفاته. وقد عزّز رحيل الرجل الذي وصف بالأسطورة، من الصورة القاتمة والمتشائمة التي تطبق على عالمنا في العام 2020، وأثار النبأ قدرا كبيرا من التأثر والشعور بالصدمة لدى الملايين من معجبيه، ومن مواكبي مسيرته، ومن عامّة الناس في كل مكان من المعمورة.

أطلقت عليه الصحافة الرياضية في بلاده لقب "الطائرة الورقية الكونية"، التي تطير في الريح، وتتحدّى التوقعات في خط مسارها

تنبئ سيرة حياة مارادونا عن شخصٍ يجمع في إهابه بين طموحٍ لا يحدّ، مع عصاميةٍ باسلة، إذ لم ينل رعاية تُذكر في بادئ الأمر، سوى من ابن عم له أهداه، وهو في الثالثة من عمره، كرة قدم، وقد ظلّ الطفل يحتضنها في نومه ستة أشهر (مخافة أن يسلبها منه أحد)، حتى انتزعها منه أبوه برفق، داعيا إياه إلى الاهتمام بدروسه، وقد عوّض الأب أرماندو عن ذلك بالتعبير عن فخره بفلذة كبده، إلى درجة إقدامه على تلميع حذاء ابنه، بعدما أخذ الطفل، ثم الفتى، يُبدي تفوّقا في اللعب. وقد لفت مارادونا الأنظار إليه، وهو في سن التاسعة أو العاشرة، حين لعب مع فريق قريته، الفريق المسمّى "البصل الصغير"، إلى درجة أن المدرّبين سألوه متهكّمين: هل أنت متأكد أنك طفل، وأنك لم تجتز سن العاشرة؟ لقد عرف، بين مواهب أخرى، بمهارته الفائقة في المراوغة، فأطلقت عليه الصحافة الرياضية في بلاده لقب "الطائرة الورقية الكونية"، والمقصود طائرة الورق التي تطير في الريح، وتتحدّى التوقعات في خط مسارها.

تنبئ سيرة حياة مارادونا عن شخصٍ يجمع في إهابه بين طموحٍ لا يحدّ، مع عصاميةٍ باسلة

عاش دييغو في كنف أسرة فقيرةٍ تعدادها، مع الأب والأم، عشرة أفراد. وكان ربّ الأسرة والمعيل الوحيد عامل طوب. ويستذكر دييغو عبارةً ظلت أمّه ترددها لدى تقديم الطعام له ولخمس شقيقاتٍ وشقيقين، وهي شكواها من آلام في المعدة. وقد مضت سنواتٌ قبل أن يدرك دييغو أن أمه كانت تدّعي وجود آلام في معدتها، كي تسوّغ امتناعها عن تناول الطعام، بأمل أن تكفي الكمية المتواضعة ثمانية أفواه عدا عن الأب المكافح.
لقد شقّ الشاب طريقه إلى النجاح بأسرع وأبعد مما توقع، وشيّع الفقر الى الأبد. وعلى الرغم من وفاة الأب والأم في مرحلة مبكرة من مسيرة صعوده، إلا أنهما عاينا الخروج من ربقة العوز. وهو ما ملأ نفس الفتى بالزهو. وقد اقترن، في ذروة صعوده بالشابة كلوديل فيلافان، وقد أثمر الزواج ابنتين، شابتين الآن، دلما وجيانينا، وقد وصفهما بأنهما ابنتاه الشرعيتان، أما الباقون فهم نتيجة أمواله وأخطائه (في إشارة إلى أبناء غير شرعيين له). وخلال هذه الفترة، تقاعد من الملاعب، محتفظا بنجوميته، وتحوّل الى مدرب، ولكن مع جموحٍ أخذ يطبع حياته، ما أدى إلى انفصاله عن أم ابنتيه في العام 2004، وإلى انزلاقه إلى عالم الدخان الأزرق (المخدّرات). وبدا الرجل كأنه قد أخذ على نفسه عهداً بتحطيم كل ما ابتناه، ابتداء من تحطيم نفسه وجسده، فأخذت الأمراض تتسلل إلى جسده، وعانى من بدانةٍ مفرطة. وقد دعاه كاسترو إلى هافانا، لإسناده في رحلة الاستشفاء من الإدمان على المخدر. وقد نجح، أخيرا، في بلوغ هدفه، بالتخلص من المخدّرات، ولكن عن طريق الإدمان على الكحول! الذي رافقه إلى بقية حياته، وأعطب أجهزته الحيوية، بما في ذلك منطقة في الدماغ.

قواه الروحية والذهنية لا تضاهي طاقته الجسدية ومهاراته الرياضية، وأمضى سحابة الوقت، منذ 2004، في حالة تخبّط وضياع

لا يصعب تصوّر الجانب المأساوي في حياته، والذي كان نتاج ضعفه، فقد عانى من صقيع الأضواء، ومن عزلة النجومية، بعد معاناته في الابتعاد عن أسرته وعن محيط الأصدقاء، وانغماسه في ملذّاتٍ حسّيةٍ تتيحها له أمواله، فقد حقق ما يريد بتمكين بلاده من كأس العالم، وتمكين نفسه من تصدّر النجومية (جرى تصنيفه، في أحد استطلاعات الإنترنت، مع اللاعب البرازيلي بيليه، الأكثر تميزا وسطوعا، وقد احتجّ ماردونا طالبا أن لا يشاركه أحد موقع الصدارة، على الرغم من أن اللاعب البرازيلي الشهير هو في منزلة أستاذ مُلهم له).
ومن المحطات الفارقة في مسيرته تدريبه نادي نابولي الإيطالي، وقد حقق هذا النادي نتائج باهرة بين عامي 1987 و1990، من تصدّر الدوري الإيطالي أكثر من مرة إلى الفوز بالبطولة الأوروبية. وفي تلك الأجواء، تضاعفت شهرة مارادونا حتى كاد يختنق بها، كما يستدلّ على ذلك من وصفه نابولي: "هذه مدينة رائعة، لكنني بالكاد أستطيع التنفس. أريد أن أكون حرّا في التجول، أنا فتى مثل أي شخصٍ آخر". وقد تنفس في ما بعد على طريقته مع دخان المخدّر.
ومن الواضح أنه أخفق في الإجابة عن سؤال: ماذا عن اليوم التالي للنجاح؟ أو ماذا بعد النجاح؟ وأن قواه الروحية والذهنية لا تضاهي طاقته الجسدية ومهاراته الرياضية، وأنه أمضى سحابة الوقت، منذ العام 2004، في حالة تخبّط وضياع، من غير أن يطمس ذلك كونه أيقونة من زماننا.