ماذا يفعل الكاتب أمام شرور العالم؟
هل بات الكاتب مسكيناً حقاًّ أمام إحداثيات العالم العنيفة والمتوالدة والمتزايدة كل ساعة، من مجاعات في غزّة بعد الحروب إلى القتل بالآلاف من لبنان، وسورية، والسودان، وروسيا، وأوكرانيا، إلى أزمات الغذاء والاحتكارات، إلى التلاعب بصُلب الديمقراطية في بلد الديمقراطية كما قيل، والتي تهدّد بالحرب إذا جرى توقيف نتنياهو بعد حكم المحكمة الجنائية الدولية، وكأن الديمقراطية ضد حكم محكمة دولية تُعيدنا إلى لعب العيال والعصابات، هذه المتاهة المضحكة التي تتفاخَر بها أميركا إلى درجة شن الحرب من أجل رئيس وزراء، أي موظف عام كما كان يقال؛ فماذا لو انطلق صاروخ إلى أرض الديمقراطية من روسيا مثلاً أو كوريا الشمالية، هل باتت الديمقراطية مجنونةً إلى هذا الحد؟
تقوّض النظام الذي كان اشتراكياً في يوم ما ويتباهى بالفن والموسيقى والعدالة والحرّية، وأصبح وريثه بوتين يتباهى بالصواريخ والضرب بالنووي وبالقانون أيضاً، حتى للدول التي لا تهدّد بالنووي، وترامب على الجانب الآخر من المحيط يقول إنه يستطيع حل المشكلة الروسية الأوكرانية في ساعة، فما الذي يمنعه، والذي أوجد المشكلة وبدأها حليفه وخدينه بوتين؟ كلها ألغاز مجنونة ومحيّرة في يد أفراد أقل من أصابع اليد الواحدة تمتلك بداية الحرب، وتترك لقرّاء الفناجين ميعاد انتهائها، فماذا يفعل الكاتب بكلماتٍ يقولها، ويدفع بها إلى المطبعة، وهو هناك مسكينٌ ووحيدٌ في مكتبته ما بين كتبه ومراجعه ومعاجمه وأطالسه وقواميسه؛ حتى السلطات العربية خاصة استطاعت أن تُلغي دور النخبة بجرّة قلم في العقد الأخير، وتركت لهم موائد تحكيم الجوائز ومهرجانات الطرب وشاعر المليون وجوائز القلم الذهبي وشعراء مطارات دبي إلى آخره، بعد ما أصبح اليمين المتطرّف في "إسرائيل"، وعصابات الحكم المستحدثة لدى ترامب كالبنيان المرصوص، فماذا يفعل الكاتب المسكين، وهو يرى حكومات بلاده ظلاً لنتنياهو صمتاً أو كلاماً ساكتاً على حد تعبير أهل السودان أو كلاماً موارباً يصلح لكل زمان ومكان.
ماذا يفعل الكاتب خلف مكتبه أو في مقهاه أو منتداه أو ندوته في اتحاد كتّاب قد بيع مقدّماً ولعشرين سنة قادمة نظير السفر؟ ماذا سيفعل الكاتب المسكين، وهو في عقر منفاه، حتى وإن بعد، أو حتى إن سكن في بيت "الحاجة وسيلة"، بمصر القديمة يتكلّم عن أحزان المتنبي أو رهين المحبسيْن أو شعر التفعيلة، بعدما ضحكت عليه قصيدة النثر من المحيط إلى الخليج، وخاصة وهو يحكّم في جائزة محترمة ستعطى لصديق اليوم بتجرّد شديد على أن يحصل عليها هو في العام المقبل وبتجرّدٍ شديدٍ أيضاً؟
ماذا سيقول الكاتب ونصف أو أكثر من النصف ممن عرفهم من الكتّاب قد توفّاهم الله بالأمراض الخبيثة أو راحوا فطيساً ومن مات في مستشفيات القوات المسلحة كان من نصيبه أن لفّ نعشه بعلم البلاد، وتمّ أخذ العزاء فيه أولاً بجامع المشير، أو عمر مكرم، أو الشرطة، أو الشاذلية، ومنهم من ترك البلاد بحثاً عن لغةٍ كي يأكل عيشه من الترجمة، أو فارق العملة، حتى يعود غريباً في آخر عمره من منفاه.
ماذا يفعل الكاتب المسكين أمام غول الأسعار، بعدما انعدمت القهوة غلاءً، وندر الدخّان، وتفرّغت المليارات لمهرجانات الفساتين المشقوقة من كل جوانبها، وبعض الكتّاب تراه مساءً يبيع للحكومات المؤقتة حبّة البركة وحلف البر والدمسيسة والكركدية والعلاج بالأعشاب مع تذكرة النبي أيوب الصابر، ومن صبر على ولاة الأمر فله الجنّة في الدنيا والآخرة كما ذكر الشيخ خالد الجندي، وهو يطوي حبّات مسبحته الألماس، وبقفطانه المغربي الموشّى بالقصب؛ ماذا يفعل الكاتب المسكين، وهو يحاول في كل يوم أن يحمي مكتبته من هجمات الفئران؟
ماذا يفعل الكاتب المسكين بعد ما فرغت الصناديق من الشموع في مصر القديمة، وانعدمت الأحبار في أسواق الورّاقين. والآن يفكّر الجبرتي في بيع جمليه في السوق ويسافر بالمركب إلى الحجاز أو مهرجان الرياض، فعلّه يلتقي هنالك بأليسّا أو عمرو دياب، وعلّه هناك يجد للصلح طريقاً ما بين على الحجار ومدحت صالح. وجميلٌ أن يكون الجو مرحاً في وجود سعد الصغيّر والعرجاني ونخنوخ، ومن غير أسلحة خفيفة أو ثقيلة أو ثعابين أو أسود جارحة.