ماذا يجب أن يكون ردّ "حماس" على مبادرة ترامب؟

02 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 02:55 (توقيت القدس)
+ الخط -

مع اقتراب حرب الإبادة في قطاع غزّة من إكمال عامها الثاني، يُطبق جيش الاحتلال كمّاشة حربه على ما يقارب 85% من مساحة القطاع. تغيّرت ملامح غزّة جذرياً؛ مدن وبلدات كاملة اختفت من الخريطة، وما تبقّى من السكان حُشروا في رقعةٍ ضيّقةٍ تحاكي أكبر معسكر اعتقال بشري منذ الحرب العالمية الثانية. عشرات آلاف قضوا شهداء، ومئات آلاف من الناجين باتوا يعانون إعاقات جسدية وصدمات نفسية ستلازمهم مدى الحياة. وفي وقتٍ يقترب الاحتلال من السيطرة على مدينة غزّة، بعد أن لحقت رفح بمصير المدن المدمّرة، تستعدّ غزّة للأسوأ، لمجهول مخيف، وليوم حشر عظيم.

تأتي مبادرة الرئيس ترامب من رحم هذا الواقع الفلسطيني المُرعِب، وهو ما يجعلها فرصةً مهمّةً وتاريخية. أهم ما تحمله وقف حرب الإبادة، ومنع التهجير، وتمكين الفلسطينيين من البقاء عبر إعادة إعمار غزّة تحت مظلّة دولية بدعم عربي ودولي، وهذا بحدّ ذاته يُعدّ إنجازاً في هذه المرحلة القاتمة والدامية. ورغم أن المبادرة بطبيعتها انتقالية، ولا ترسم مساراً واضحاً نحو الدولة الفلسطينية، إلا أنها تُعيد (بشروط كثيرة) إحياء مسار التفاوض بشأن حلّ الدولتَين، بعد أن كان قد مات سريرياً في خضمّ التحوّلات الإقليمية المتسارعة بعد "الربيع العربي". ما يميّزها هذه المرّة أنها تحظى بدعم وتوافق إقليمي وعربي وإسلامي نادر، يجمع دولاً كانت في السابق على خلاف أو تنافس في الرؤى والمقاربات تجاه القضية الفلسطينية. يشكّل هذا الاصطفاف مؤشّراً إيجابياً، ويوفّر زخماً إضافياً للقضية، عبر أدوات التأثير المتاحة وبما يخدم مصالح تلك الدول. كما تأتي المبادرة في ظلّ زخم دولي متزايد من الاعترافات والدعم الشعبي العالمي للقضية الفلسطينية، ما يمنحها بُعداً إضافياً.

فشلت حرب الإبادة في إحياء أيّ أمل بالوحدة الوطنية، بل عمّقت عزلة الفلسطينيين بعضهم عن بعض، سياسياً واجتماعياً وجغرافياً

عربياً وإسلامياً، تمثّل المبادرة من منظور سياسي واقعي الحدّ الأقصى من التأثير والنفوذ، ارتأت الدول الداعمة تقديمهما، فقد حدّدت هذه الدول سقف توقّعاتها والتزاماتها، وهو بكل تأكيد محبطٌ لآمال وتطلّعات شعبية كثيرة فلسطينياً وعربياً، لكنّه من زاوية الواقعية السياسية البحتة يرسم مساراً جديداً لقواعد الاشتباك السياسي، بعيداً من بيع الأوهام للقوى الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس. الرسالة هذه المرّة واضحة وصريحة: على الحركات الوطنية الفلسطينية، بما فيها "حماس"، أن تتكيّف مع قواعد اللعبة التي رسمها الإقليم، وأن تتفاعل معها بالوسائل المتاحة للضغط والتحرّك. الإجماع العربي والإسلامي على هذا الموقف، وتجاوز هذه الدول خلافاتها وصراعاتها التي تفجّرت في مرحلة "الربيع العربي" وما بعدها، يعكس إدراكاً عميقاً بحجم الخطر المحدق بالقضية الفلسطينية وبغزّة خصوصاً. ولذلك قرّرت هذه الدول التحرّك وفق ما تسمح به مصالحها المتشابكة، وأحياناً المتناقضة، عبر تبنّي المبادرة ودعمها، رغم إدراكها أنها لا تلّبي الطموحات الكبرى. ومع ذلك، يبقى الرهان أن تواصل هذه القوى الإقليمية الضغط على الشريك الأميركي والإسرائيلي، لضمان عدم الاكتفاء بمرحلة انتقالية مؤقتة، والاستمرار في الدفع نحو حلّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية، من دون تقديم تنازلاتٍ أو توسيع دائرة التطبيع.

إسرائيلياً، لم تحقّق الحرب أحد أهم أهدافها، وهو التهجير، فقد أحبطت مصر، بثباتها ورفضها الضغوط والتهديدات والإغراءات، هذا المخطّط، كما فشلت إسرائيل فشلاً ذريعاً في إقناع أيّ دولة أخرى بقبول الفلسطينيين لاجئين. في المقابل، نجحت في تدمير معالم الحياة في القطاع بشكل شبه كامل، وجعلته غير قابلٍ للعيش ما لم تُطرح خطّة إنقاذ شاملة لإعادة الإعمار وبثّ الحياة فيه من جديد. لم تكن هذه النتائج ثمرة صمود غزّة وحدها، بل عوامل خارجية حاسمة، إذ لم يُتح لسكّان القطاع حتى خيار اللجوء أو الهروب من جحيم الحرب في "سجن غزّة الكبير"، الذي أُغلقت كل أبوابه أمامهم من القريب والبعيد. وبذلك كشفت الحرب حدود قوة إسرائيل، رغم الدعم الأميركي المتواصل، وعجزها عن تحقيق هدفها الجوهري بالتهجير. ومع ذلك، يبقى الاحتلال قادراً على الاستمرار في حربه الإبادية، بل يمتلك خيار التصعيد وفتح جبهات مع دول الجوار لفرض التهجير بالقوة. ويثير هذا السيناريو مخاوف حقيقية، وتدلّ عليه الاستعدادات المتزايدة للجيش المصري في سيناء تحديداً.

دفعت غزّة ثمن نزوات الفصائلية الفلسطينية، التي سلّمتها لقمةً سائغةً لآلة الفتك الإسرائيلية

فلسطينيا، فشلت حرب الإبادة في إحياء أيّ أمل بالوحدة الوطنية، بل عمّقت عزلة الفلسطينيين بعضهم عن بعض، سياسياً واجتماعياً وجغرافياً. بات القطاع والضفة لا يجمعهما سوى خيط رفيع، فيما اتسعت الهوة الهُويَّاتية بين الجغرافيّتين بفعل الاحتلال من جهة، وبفعل نخب فلسطينية ارتهنت لانتهازيتها ومصالحها الضيقة، من جهة أخرى، فساهمت في تكريس الشرخ وتعميقه. غزّة اليوم وحيدة، تنزف في مأساتها وإبادتها، لا تفهم (ولن تفهم) كيف تُركت لتُذبح بهذه الوحشية، ولا كيف زُجّ بها في جحيم الحرب لتُحمَّل وحدها شرف الدفاع عن أمّة كاملة. غزّة لا تفهم كيف يُطلب من الجياع والحفاة والمشرّدين من أهلها أن يرتدوا قسراً عباءة "الصمود"، بينما الأمّة متفرّجة، والعالم متعاطف لكنّه عاجز أمام قيود السياسة وسطوة موازين القوة. لقد دفعت غزّة ثمن نزوات الفصائلية الفلسطينية المقيتة، التي سلّمتها لقمةً سائغةً لآلة الفتك الإسرائيلية. طُحنت غزّة، ودُفعت نحو أثمان باهظة، حتى من نسيجها الاجتماعي الأصيل الذي كان من أبرز سماتها. لم يقف التدمير عند حدود الحجر والبنية التحتية، بل وصل إلى الداخل: إلى الفكر والخيال والهُويَّة والأخلاق، إذ بدأ الانقسام، ثمّ تفاقم حتى بلغ ذروته في حرب الإبادة.

لذلك، لا تحتاج غزّة اليوم مزيداً من الشعارات أو المزايدات، بل استراحة طويلة تداوي فيها جراحها، وتستعيد أنفاسها، بعيداً من الانقسام والحسابات الضيّقة. تحتاج غزّة أن تنفض عنها الأقنعة التي فُرضت عليها قسراً، وأن تتحرّر حتى من حكامها وفصائلها، بل ومن نفسها التي أُنهكت وصارت أسيرة الفقد والدمار.

بالعودة إلى المبادرة، ينبغي أن يكون الجواب الذي يجب أن تطرحه "حماس" بسيطاً وواضحاً: "نوافق على المبادرة، ونوكل الدول العربية والإسلامية الداعمة لها بمتابعة تنفيذها، حتى يحين وقت استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية." هذا الردّ وحده قد يُثلج صدور أهل غزّة، ويمنحهم بصيص أمل في نهاية هذا الجحيم. بل ربّما يفتح باب الغفران لشعب طيّب، عانى ما لا يُطاق، لكنّه لا يزال قادراً على التسامح مع من قصّر معه، إذا لمس منهم صدق النيّة ورغبة حقيقية في إنقاذ ما تبقّى.