ماذا وراء زيارة السوداني لندن؟
كير ستارمر (يمين) ومحمد شياع السوداني في مقر رئاسة الحكومة في لندن (14/1/2025 فرانس برس)
في واحدةٍ من رسائلها إلى أبيها، كتبت غيرترود بيل الباحثة وصانعة الملوك ومستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس في عشرينيات القرن الراحل تقول: "هل تعلم يا أبي ماذا يسمّونني هنا؟ إنهم يسمّونني أم المؤمنين، وهذا ما يجعلني لا أفكر في ترك هذا البلد أبدا". وهكذا بقيت مس بيل في العراق حتى توفيت، ودفنت في مقبرةٍ يسمّيها العراقيون اليوم "مقبرة الإنكليز" التي لم تحو رفات بيل فحسب، وإنما ضمت أيضا رفات مئات الجنود البريطانيين الذين قاتلوا في "بلاد ما بين النهرين"، وشكّلت ما يشبه "مسمار جحا" الذي يذكّر العراقيين دوما بأن الإنكليز عائدون يوما ما إلى هذه الديار، وها هم اليوم يعودون لا قوة محتلة غاشمة بذل العراقيون الكثير من أجل طردها من بلادهم، وإنما قوة "صديقة"، وربما "حليفة"، لمساعدتهم على النهوض، بعدما أخنى عليهم الدهر، وبطلب من حكّام بغداد أنفسهم الذين ذهبوا إليها برؤوسهم قبل أرجلهم طالبين المساعدة والعون!
وخلصت زيارة رئيس الحكومة محمد شياع السوداني لندن أخيراً إلى تأسيس "شراكة استراتيجية" بين البلدين تضم جوانب أمنية وعسكرية واقتصادية، وتوقيع اتفاقات تجارية بقيمة ما يقرب من 15 مليار دولار (أكثر من عشر مرات من حجم التجارة الحالي)، فيما كانت أولويات بريطانيا ضمان العودة إلى البلاد التي تحمل صفحات من عصرها الإمبراطوري، والحصول على فرص للشركات البريطانية في مجالات مختلفة، وشكلت خطوة باتجاه تفكيك تجارة تهريب البشر إلى بريطانيا، والعمل على ترحيل العراقيين المقيمين هناك بشكل غير قانوني.
ومع ذلك كله، يبدو أن الزيارة ليست بهذا القدر من البراءة والعفوية، وأن ما دفع حكام بغداد إلى الاستدارة نحو بريطانيا هو أكثر، ربما أخطر، مما قيل وكتب في القنوات الرسمية، حيث إنها أثارت الكثير من الظنون المعطوفة على وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سدة القرار، وتهديداته حكومة بغداد بوجوب التصدّي للنفوذ الإيراني، وحل المليشيات، وحصر السلاح بيد الدولة، ومحاربة الفساد المستشري في البلاد. وقد يكون السوداني توصل إلى أن استعادة العلاقة التاريخية مع بريطانيا يمكن ان تساهم في دعمه في وقتٍ يسعى إلى الخروج عن هيمنة المليشيات، كما يطمح إلى كسب أوروبا إلى جانبه في التخفيف من ضغوط ترامب وإملاءاته، مقدّما نفسه "رجل دولة" يعرف كيف يتعاطى مع الأزمات، وساعيا إلى نيْل ولاية ثانية رغم مكائد خصومه.
المطلوب عملية جراحية كبرى تطيح كل الرؤوس النافذة التي أوصلت العراق إلى المنحدر
إلى ذلك، لا ينبغي تجاهل أن الإقدام على الزيارة في هذا الوقت بالذات ليس سوى تفصيل فرعي في أطروحة طويلة عنوانها العريض هو الهروب من معالجة مشكلات الداخل واستحقاقاته إلى التظاهر بالقيام بأدوار في إطار علاقات الدول ببعضها، وتقديم عروض لتسوية مشكلات خارجية أشبه بعروض عضلاتٍ مهزوزة، وليس أكثر مدعاة للسخرية، في هذا الجانب، مثل ما كان أعلنه مسؤول عراقي في وقت سابق عن استعداد بلاده للتوسّط لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا إذا ما تقدّمت الدولتان بطلب المساعدة منها!
اللافت أيضا في المشهد أن السوداني توجه إلى لندن، عندما كان أعضاء البرلمان يتقاتلون على تمرير حزمة قوانين مثيرة للجدل، يقرّ أحدها ضمنا زواج القاصرات، فيما يمنح آخر العفو العام الذي يشمل الحيتان الكبار وسرّاق المال العام، وبينهم أبطال سرقة القرن، وثالث يعيد للأكراد المرحّلين زمن النظام السابق أملاكهم المصادرة في حينه، وذلك في سلة "مقايضة" مشبوهة بين ممثلي المكونات الثلاثة (الشيعة والسنة والأكراد)، أعطت لكل طرف القانون الخاص به، على قاعدة "أوافق على حصتك مقابل موافقتك على حصتي"، ومن دون تصويتٍ في مخالفة صريحة لآليات النظام الديمقراطي، وحتى للدستور الهجين الذي شرعنته سلطة الاحتلال. وبالتزامن مع هذه الصفقة، تفجّرت معركة أخرى تحت قبّة البرلمان، أبطالها "تجمع نواب الوسط والجنوب" الذين اتهموا الحكومة بالتواطؤ مع سلطات كردستان على تمرير اتفاقاتٍ تخصّ الرواتب والموازنة وتصدير النفط.
ومع كل ما حدث ويحدث، تظل في الأذهان حقيقة أن العراقيين بعد 22 عاما من الغزو الأميركي، واعتماد "وصفة" المحاصصة الطائفية التي جاء بها الأميركيون، لم يعودوا في وارد القبول بحلول ترقيعية وسياسات قصيرة النظر، إنما المطلوب عملية جراحية كبرى تطيح كل الرؤوس النافذة التي أوصلت البلد إلى هذا المنحدر، وتوقف هيمنة الإيرانيين على القرار، وتتيح الفرصة لخروج العراقيين من محنتهم المديدة، ودخولهم في مرحلة "انتقالية" توصلهم إلى شاطئ السلامة، وقد تكون الفرصة متاحة اليوم أكثر من أي وقت سابق.