ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟

ماذا نستفيد مما يحصل في فرنسا؟

06 ديسمبر 2020

فرنسيون يحتجون في باريس ضد قانون "الأمن الشامل" (21/11/2020/Getty)

+ الخط -

مرّر البرلمان الفرنسي (الغرفة السفلى)، في 20 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، قانون "الأمن الشامل" الذي يحدّ من حرية الصحافة، ويفرض، في البند 24 منه، غرامة هائلة (45 ألف يورو) والسجن عاما، على كل من يصوّر الشرطة عند أدائهم عملهم، وينشر الصور بدافع "سوء النية" لإلحاق الأذى الجسدي، أو النفسي، بهم (محاكمة نوايا). صاحبا الاقتراح نائبان في البرلمان من حزب الرئيس (الجمهورية إلى الأمام)، كان أحدهما عميداً في الشرطة وقائد وحدة قوات التدخل السريع (ريد)، قبل أن يصبح نائباً.

لم يعترض على القانون سوى 104 من أصل 577 نائباً، أي 18% فقط من النواب المنتخبين بحرية ونزاهة ليمثلوا مصالح ناخبيهم. التنافس السياسي والاستثمار السياسي في الخوف الذي يغذّيه اليمين المتطرّف في الفرنسيين دفع غالبية النواب (388) إلى الموافقة وامتناع 66 عن التصويت. الاحتجاجات التي قادتها النقابات الصحافية وجماعات حقوق الإنسان، مع الفيديوهات الصادمة التي انتشرت على وسائل التواصل، دفعت الحكومة إلى التراجع، وإعادة مشروع القانون إلى البرلمان لتعديله. المشهد إذن هو خروج الناس ضد إرادة البرلمان. لولا ذلك، كان القانون سيمرّ، وسيقال إنه تعبير عن إرادة الأمة. 

تؤكّد الأحداث التي تتوالى في فرنسا حقيقة أن لا شيء يضمن احترام القيم والمعايير الديمقراطية في بلد، سوى الفاعلية الشعبية المباشرة والوجود المباشر للناس في الشارع. وأن ميل السلطات إلى تقييد الحريات العامة ثابتٌ لا تقف في وجهه بشكل مضمون لا الانتخابات ولا تداول السلطة ولا حرية الأحزاب .. إلخ. على العكس، قد يدفع سعي الأحزاب وراء الأصوات الانتخابية إلى التضييق على الحريات العامة والخاصة، بدعوى "الأمن"، كما نشهد في فرنسا من صراع بين الحريات و"الأمن الشامل".

صحيحٌ أن الكاميرات تساعد على رصد تعدّيات الشرطة، ولكن لا تكتمل فائدة هذا الرصد، ما لم توجد جاهزية شعبية للحركة والاحتجاج

المحرّك السياسي في الديمقراطية التمثيلية هو البحث عن الأصوات، مثلما أن المحرّك الاقتصادي للرأسمالية هو البحث عن الربح، وكما لا يرتبط الربح لزوماً بتحقيق حاجات الناس، وقد يرتبط بتدمير مادي للناس، ولمصالحهم (أسلحة، مخدّرات، مضاربات ..)، كذلك لا يرتبط الحصول على الأصوات لزوماً بتحقيق مصالح فعلية للناس (النزوع الشعبوي، خلق الهاجس الأمني والاستثمار في الخوف ..). وإذا مضينا أكثر في المقارنة، نجد أن الدولة في البلدان الديمقراطية وجدت نفسها مضطرّة للتدخل بغرض الحد من الميول "الطبيعية" للرأسمالية، عن طريق وضع قوانين لمنع الاحتكار، وفرض ضرائب تعيد، من خلالها، توزيع بعض الثروة، وتعدل ميل القوانين الاقتصادية إلى تهميش قطاع واسع من المجتمع وإفقاره. بالقياس، الحضور المباشر للمحكومين، من خلال تنظيماتهم المدنية ومتابعتهم واستعدادهم الدائم للنزول إلى الشارع، وحده ما يحد من ميول السلطات المنتخبة إلى تضييق الحريات، واكتساب مزيد من المساحة لحركتها الخاصة. 

في فرنسا، البلد الأكثر حيويةً شعبية في أوروبا، كان يمكن للانتهاكات الأخيرة أن تمرّ، نقصد الإخلاء العنيف لخيم اللاجئين في ساحة الجمهورية في 23 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، والاعتداء بالضرب المبرّح على رجل أسود في محله، لمجرّد أنه يقف أمام المحل من دون أن يضع كمامة، قبل الحادثة الأولى بيومين. وكان يمكن للحقائق أن تُقلب، وأن يتحوّل الضحية إلى جانٍ. عناصر الشرطة الذين اعتدوا على الرجل الأسود، ميشيل زيكلر، اعتقلوه بعد ضربه، في مقر للشرطة، وافتروا عليه بتقرير يقول إنه أساء التصرّف معهم وأهانهم، وحاول خطف سلاح أحدهم. وكان هذا كله يمكن أن يمر لولا الكاميرات والتصوير، والحركة الشعبية التي تلت. 

صحيحٌ أن الكاميرات تساعد على رصد تعدّيات الشرطة، ولكن لا تكتمل فائدة هذا الرصد، ما لم توجد جاهزية شعبية للحركة والاحتجاج. ويحتاج توفير هذه الجاهزية إلى عمل مدني من شقين، الأول ثقافي يقوم على نشر القيم الديمقراطية والإنسانية وتوطينها في الوعي العام، أي تعزيز قيمة القانون إلى جانب القيم الإنسانية، فلا يكون في الوعي العام ثغرة تتقبل أي انتهاكٍ بحق أي كان، بداعي التحيزات السياسية أو غيرها من التحيزات. والثاني تنظيمي يقوم على إنشاء أشكال بسيطة ومرنة من التنظيمات التي تقوم بالدور الثقافي السابق، وبالحشد والحركة والفعل اللازم للوقوف في وجه الانتهاكات، مستفيدةً من وسائل التواصل الحديثة. الرصد والتصوير هو بمثابة الصاعق الذي لا يغني عن الديناميت. 

يوجد في الوعي العام في سورية، وفي مجمل الثقافة الشرقية، قناعة ضمنية (وأحياناً صريحة) أن ضبط المجتمع يحتاج إلى حكم قوي وشديد

كانت الصور التي فضحت الممارسات الرهيبة لنظام الأسد ضد الثائرين عليه كثيرة وصادمة إلى الحدود القصوى، ولكنها، مع ذلك، لم تغيّر كثيراً في المشهد. يوجد في الوعي العام في سورية، وفي مجمل الثقافة الشرقية، قناعة ضمنية (وأحياناً صريحة) لدى العامة، كما لدى النخبة، أن ضبط المجتمع يحتاج إلى حكم قوي وشديد، وأن جزءاً من المجتمع يمكن أن يدفع الضريبة. وجود هذه القناعة، إلى جانب الخوف الذي يسبّبه القمع، يقلل من أثر الرصد والتصوير المذكور. نقد هذه القناعة جزء مهم من العمل المدني المقصود. ينبغي القول إن النقد الذي ينطلق من خلفية سياسية يتجه، بطبيعة الحال، إلى منفعةٍ سياسيةٍ، لذلك يميل إلى التساهل تجاه انتهاكات والتركيز على انتهاكات وفقاً للمصلحة السياسية الممكنة، هذا ما يدفعنا إلى التركيز على النشاط المدني الذي يناضل ضد الانتهاكات بذاتها، باستقلالٍ عن "أبطالها" وخلفياتها السياسية.

الوصول إلى حكم ديمقراطي فعلي يحتاج إلى حضور شعبي دائم، ووقوف الناس الدائم بجانب حقوقها ومصالحها

قال الرئيس الفرنسي، ماكرون، بعد رؤية فيديو الاعتداء على الرجل الأسود "هذا عار". وطلب من وزير الداخلية معاقبة العناصر الضالعين، وكذلك التوجيه بإعادة كتابة القانون الذي أثار الاحتجاجات. فيما قال رأس النظام السوري، بشار الأسد، حين عرضت عليه صور أكثر فظاعة بما لا يقاس، "هذا كذب"، واستجاب بمواصلة سياسة القتل. الأول لا يستطيع، حتى لو أراد، أن يواجه ثقافةً مكرّسة في المجتمع، تحترم حقوق الإنسان داخل فرنسا، على الأقل. الثاني يستند، في تكذيب الصور، إلى رضا أو تواطؤ "ثقافي" عام، مع يقينه أن غالبية السوريين يعلمون أنه يكذب. بين القولين، الأول والثاني، فارق ثقافي وليس سياسيا فقط.

غياب الثقة بالممثلين أو المنتَخَبين كان وراء الحركة الشعبية الواسعة التي أثارها تراجع القدرة الشرائية لدى الفرنسيين أواخر العام 2018، نقصد حركة السترات الصفراء التي انطلقت من خارج الأحزاب، وأقلقت الطبقة السياسية كاملة، وطالبت بالديمقراطية المباشرة، أي حق المواطنين باقتراح قوانين وإلغاء أخرى وتعديل الدستور وإقالة شخص منتخَب. هذا يقول إنه يمكن أن يتم تبنّي الديمقراطية التمثيلية بقرار، ولكن الوصول إلى حكم ديمقراطي فعلي يحتاج ليس فقط إلى نضال طويل في المجالين، السياسي والثقافي، وإنما أيضا يحتاج إلى حضور شعبي دائم، وإلى وقوف الناس الدائم بجانب حقوقها ومصالحها.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.