ماذا لو تعب المُهرّج؟

06 فبراير 2025

(ياسر صافي)

+ الخط -

في السيرك، حيث تُسلَّط الأضواء، ويتجمّع الناس بوجوهٍ متلهفة للفرجة، يقفُ المهرّجون بوجوههم المطلية بالألوان الصاخبة، بأزيائهم الفضفاضة التي توحي بخفّةٍ زائفة، وهم يضحكون، يقفزون، يتعثّرون عمداً، يسقطون ليُضحِكوا، ثمّ ينهضون وكأنَّ شيئاً لم يكن. يصفِّق الجمهور، يعلو الضحك من كلّ جانب، لكنّ قلّةً فقط ترى الحقيقة المخفية خلف تلك الأقنعة المبتسمة، خلف العيون التي تُخفِي حزناً لا تستطيع الألوان ستره.

هؤلاء ليسوا مُجرَّد مهرّجين في سيرك، إنهم أرواحٌ تحترف التمثيل حتى تماهت مع أدوارها، لكنّها لم تعد تُضحِك كما ينبغي، بل باتت تستدرُّ الشفقةَ، كأنّ أحداً في الداخل قد كسر شيئاً لا يمكن إصلاحه. المهرج، في جوهره، ليس مُجرَّد شخصية هزلية تُثير الضحك وحسب، بل أيضاً رمز قديمٌ للذين يخفون أوجاعهم تحت قناعٍ من المرح أيضاً، الذين يجعلون من أنفسهم مادّةً للتسلية، بينما يكتنزون في دواخلهم حزناً ثقيلاً. هو ذاك الذي يسقط، ليس لأنَّه تعثّر، بل لأنّ سقوطه جزءٌ من اللعبة، جزءٌ من المهمّة التي تتطلّب منه أن يكون مصدراً للضحك، حتى لو كان قلبه مثقلاً بالحزن.

لكن، ماذا يحدث عندما يُصبح سقوطه حقيقياً؟ وحين يفقد القدرة على النهوض؟ وحين تتكسّر روحه خلف الستار، بينما يطالبه الجمهور بمزيدٍ من الضحك؟

ليس في السيرك وحده، بل في الحياة نفسها، هناك كثيرون يرتدون قناع المهرّج. أشخاصٌ يتقنون لعب دور السعيد، المشرق، الذي يُخفّف الأعباء عن الآخرين، حتى وهم يغرقون في ظلامهم الداخلي. إنهم أولئك الذين يلقون النكات، يُضحِكون الجميع، يملأون الأمكنة بصخب الحياة، لكن حين يكونون وحدهم، تتكشّف حقيقتهم، ويتجلّى الحزن الذي ظلّوا يخنقونه تحت قناع الضحك. هؤلاء ليسوا ممثّلين في مسرحٍ مؤقّت، بل مهرّجون في سيركٍ لا ينتهي، يُجبرهم المجتمع على أداء دورهم كلّ يوم، لأنَّهم اعتادوا أن يكونوا مصدرَ البهجة للآخرين، ولأنّ لا أحد يسأل المهرج إن كان بحاجةٍ إلى من يُضحكه.

في لحظةٍ ما، يصبح الضحكُ مُرهِقاً. تصبح الحركاتُ البهلوانية التي كانت يوماً خفيفةً عبئاً ثقيلاً، ويُدرِك المهرّج أنّه لم يعد قادراً على الإضحاك، بل بات يثيرُ الشفقة. تلك هي اللحظة التي يرى فيها الناسُ الحزنَ المختبئ خلف القناع، حين يُدركون أنَّ تلك الابتسامة العريضة المرسومة في وجهه ليست سوى رسمٍ مُتكلّف، وأنّ العيون خلفها تروي قصةً مختلفة تماماً. لحظةٌ مربكة، لأنَّ الجمهور لا يريد أن يرى الحزن، لا يريد أن يشعرَ بالذنب تجاه المهرج الذي أضحكهم طويلاً. الناس تحبّ من يُضحِكها، لكنّها لا تُحبُّ أن ترى معاناته، تُريدُه أن يبقى مضحكاً، أن يُبقِي القناع ثابتاً، حتى لو كان يخنقه.

لكن ماذا لو تعب المهرج؟ ماذا لو قرَّر أن يُسقِط القناع، أن يتوقّف عن الدور الذي فُرِض عليه؟ هل سيقبل الناس به كما هو، من دون الألوان، من دون التهريج، من دون السقوط المتعمّد الذي يُضحِكهم؟ أم أنهم سينصرفون عنه، لأنَّهم لا يريدون أن يروا الحقيقة؟... كثيرون في هذا العالم يُجبرون على أدوارٍ لا تعكس حقيقتهم، يُطلَب منهم أن يكونوا أقوياء، مُتفائلين، صنّاعاً للبهجة، بينما هم في الحقيقة يبحثون عن يدٍ تمتدُّ إليهم، عن أحدٍ لا يطلبُ منهم أن يضحكوا، بل يسألهم ببساطة: "هل أنتَ بخير؟".

المهرّجون في السيرك قد يحصلون على تصفيقٍ حارٍّ بعد عرضهم، وعلى أجورٍ لقاء تعبهم، لكن مهرّجي الحياة لا ينالون شيئاً سوى مزيدٍ من الإرهاق. إنّهم أولئك الذين يضحكون أكثر ممّا ينبغي، الذين يملأون الأماكن بالصخب حتى لا يُترَكوا مع أفكارهم وحدهم، الذين يصنعون البهجة لمن حولهم لأنَّهم يعرفون طعم العتمة ولا يُريدون لأحدٍ أن يذوقها. لكنّهم، في لحظةٍ ما، يتعبون، يتوقّفون عن الركض، يُدرِكون أنَّهم ليسوا مُطالَبين بأن يكونوا مُضحِكين طوال الوقت، وأنَّ لهم الحقّ في أن يكونوا كما هم، أن يُنصِت أحدٌ لحزنهم، أن يعترف بهم العالم، لا مهرّجين، بل بشراً يحملون بداخلهم التناقضات الممكنة كلّها.

وحين يحدُث ذلك، حين يسقط القناع أخيراً، لا تعود القصّة مضحكةً كما كانت، بل تُصبِح إنسانيةً، مؤلمةً بقدر ما هي صادقة. وحينها فقط، قد ينظر إليهم الناس بطريقةٍ مختلفة، لا مصدراً للترفيه، بل قلوباً كانت تُخفِي وجعها طويلاً، وآن لها أن تستريح.

دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.