ماذا على "حماس" أن تفعل؟

02 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 02:55 (توقيت القدس)
+ الخط -

ماذا على حركة حماس أن تفعل؟... أن تقبل، فليس ثمّة خيار. صحيحٌ أن المعروض مُهين ولا يلبّي المطالب، لكنّه يوقف على الأقلّ المجزرة التي ارتُكبت (وتُرتكب) أمام العالم كلّه، ولا توقفها (للأسف!) مظاهراتٌ ولا اعتصامات، بل قوة قاهرة لا تتوافر للحركة، ولا للفلسطينيين كلّهم، ومن يمتلكها منحاز بلا حدود إلى إسرائيل.

ليست "حماس" في حاجة إلى من ينصح أو يتعالم أو يُزاود، فهي حركة تحرّر وطني في نهاية المطاف، وتعرف قبل غيرها أن موازين القوى تدفعك إلى تحدّيها أحياناً لتغييرها ولو قليلاً لصالحك، وتُكرِهك أحياناً أخرى على ما لا ترغب، وأنها فعلت الشقّ الأول، فغيّرت كثيراً في المعادلة الدولية المجحفة، وأنها مقبلةٌ للأسف على ما تكره.

وبوصفها حركة تحرّر عليها أن تسأل نفسها بعد كل شيء: هل هُزم الفلسطينيون؟... الجواب بالنفي، فثمّة مكاسبُ كبرى بالمعنيين، الحقيقي والرمزي، تحققت منذ "7 أكتوبر" (2023)، منها أن فلسطين عادت إلى الخريطة العالمية قضيةَ شعب مظلوم لن يدّخر جهداً حتى يستعيد بلاده. وبسبب ذلك، ثمّة رأي عام عالمي أجمع على أن الدولة الفلسطينية حقّ وليست مكافأةً، وأن إسرائيل نظام فصل عنصري سيمثل قادتُها يوماً أمام محكمة الجنايات، وأن قضية هذا الشعب المظلوم أصبحت فعلياً قضيةَ الشعوب الحرّة في العالم. وكنّا نظنّ أن تعبيرات كهذه مجرّد إنشاء، إلى أن شاهدنا مئات آلاف من الشبّان عبر العالم يتظاهرون، وآلافاً في الجامعات وشوارع المدن وفي المهرجانات يتحوّلون صوتَ فلسطين التي انتصرت بشعبها هناك، في غزّة الصغيرة التي قدّمت الفاتورة الأبهظ في التاريخ الفلسطيني.

تتراجع حركات التحرّر الوطني، ولكنّها لا تُهزم، تناور وتفاوض، ولكنّها لا تفرّط، ذلك أن عينيها تظلّان دائماً على شعبها العظيم الذي لم تكسره الإبادة، بل زادته تمّسكاً بأرضه. وأظن أن "حماس"، التي قدّمت خيرة قادتها ومجاهديها شهداءَ في الدرب الطويل والمؤلم الذي يسلكه الفلسطينيون المصلوبون منذ مطلع القرن العشرين، تعرف قبل غيرها معنى هذا الصمود الأسطوري، وأنه يشكّل قاعدةً لما هو آت. والحال هذه، تعرف الحركة أن شعبها انتصر، حتى لو تراجعت هي، وأن ثمار الانتصار قد لا تظهر اليوم، بل في مقبل الأيام، وأهمّها أن غزّة غيّرت المفاهيم في العالم كلّه، وليس في جغرافيا المنطقة فحسب، وأنها وحّدت الفلسطينيين وحرّرت العالم: هل رأيتم مظاهرات الطلاب في الولايات المتحدة التي لم تنتصر لغزّة فقط، بل طالبت بتحرير بلادهم من النفوذ الإسرائيلي؟

كم كنت وحدك أيها الفلسطيني. كم كنت وحدك، وعظيماً وأنت تتلقّى ما يزيد تدميراً عن قنابل هيروشيما وناغازاكي، ولكنّك بقيتَ في أرضك، وآن لك أن تجد فسحةً من الوقت لتحصي شهداءك وتدفن موتاك، وأن تذرّف الدمع الذي لم تجد وقتاً له وأنت تُقتل بلا توقّف نحو عامَين. كم كنتَ وحدك أيّها الغزّي، كم كنت وحدك. أعرف أن ثمّة ذرائعية تثوي وراء هذه الكتابة، نوعاً من الواقعية المفرطة والجريحة أيضاً، ولكنّه الحلم يحافظ على تماسكه هناك في قلب كل غزّي رأى عائلته تُقطَّع وتُمزَّق بصواريخ أحفاد يوشع بن نون، وأنهم لم يستطيعوا قتل الحلم في قلوب من سيكبرون كالنخيل في دير البلح، وكالأساطير في حي الرمال ومخيّم الشاطئ.

هل ثمّة ظلم؟... نعم. هل ما عُرض مُهين؟... نعم. هل ثمّة خيار؟... نعم، ولكنّه لا يتوافر الآن، فثمّة كثيرٌ في هذه الحياة يحتاج إلى وقت أطول من لهفة الحالمين والمكلومين. ولكن لا بأس، فما زال محمّد وعيسى يمشيان بقدم واحدة، وما زالت فاطمة وعائشة ومريم في قيد الحياة في انتظار العودة إلى خانيونس، فليكن مجرّد وجودهم الآن هو النصر.

لم يكن السيّد المسيح جنرالاً في جيوش روما، بل كان جسداً نحيلاً لنبيٍّ عندما دقّوا المسامير في يديه على الصليب، وضفروا الشوك في جبينه، ودفعوا به إلى طريق الجلجلة، لكنّه انتصر على روما كلّها، بأن أصبحت تدين بدينه. كان الأمر يحتاج إلى وقت لتنتصر الضحية على جلّادها، وانتصرت في نهاية المطاف... كان يسوع وحيداً كالفلسطينيين كل الوقت، ولكنّه انتصر كما سينتصرون ولو بعد ألف عام.

زياد بركات
زياد بركات
قاص وروائي وصحفي فلسطيني/ أردني، عمل محررا وكاتبا في الصحافتين، الأردنية والقطرية، وصحفيا ومعدّا للبرامج في قناة الجزيرة.