ماذا بعد هبّة القدس؟

ماذا بعد هبّة القدس؟

28 ابريل 2021

(إسماعيل شموط)

+ الخط -

نجح الشارع الفلسطيني المنتفض داخل مدينة القدس في إجبار الدولة الصهيونية على إزالة الحواجز الحديدية والمتاريس التي كانت تغلق باب العمود، تحت ضغط المقاومة الشعبية، وهو نجاحٌ مهم وضروري في هذه المرحلة التي نمرّ بها. أولاً من أجل إفشال أو حتى إعاقة المخططات الصهيونية. وثانيا لجهة رفع الروح المعنوية الفلسطينية التي كسرتها عشرات الهزائم الميدانية والسياسية هنا وهناك. وثالثاً بهدف التأكيد على حيوية الشارع وإصراره على استعادة جميع حقوقه المستلبة. ورابعاً لتطويق مسار التطبيع والاستسلام العربي الجاري راهنا. كما لا بد من استذكار مجمل الهبّات الفلسطينية الشعبية التي شهدتها غالبية الأراضي الفلسطينية في الأشهر والسنوات القليلة الماضية، من مسيرات العودة في غزة، وهبّات القدس المتلاحقة، والحركات الاحتجاجية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، والمسيرات التي تناهض جدار الفصل العنصري والتوسع والتمدّد الاستيطاني، سيما في مناطق الضفة الغربية، فجميعها نماذج مهمة وحية عن حيوية الشارع وصموده وإصراره، وإن كان طابعها العام ذا صفة مناطقية.

إذًا لدينا عشرات الأمثلة على تحقيق إنجازات وانتصارات مرحلية ومناطقية متفرقة هنا وهناك، بفعل المقاومة الشعبية، في حين يصعب العثور على أي إنجاز جماعي عابر للمناطق، أو على اختراقٍ يرقى إلى مستوى استعادة بعض الحقوق الفلسطينية المستلبة، على الرغم من ضخامة التضحيات الشعبية واستمراريتها. وهو ما يسلط الضوء على مسألتين مهمتين، الأولى كيفية البناء على الإنجازات المناطقية الآنية، من أجل تحقيق إنجازات راسخة على مستوى كل فلسطين. بينما تعبر الثانية عن ضرورة التعمق في الأسباب التي حالت دون تطور النضال وتكامله حتى انتزاع مزيد من الإنجازات والانتصارات، سواء على المستوى المناطق أو على مستوى كل فلسطين.

طبيعة التحركات المناطقية ناتجة عن عوامل خارجة عن إرادة الفلسطينيين، من دون أن يعني ذلك عجز الشارع عن تغييرها

وبالتالي، نحن مطالبون اليوم بالتعمّق في هاتين المسألتين، بعد التعبير عن سعادتنا واحتفالنا بالانتصار المحقق في القدس أخيرا، كي نضمن مزيدا من الاحتفالات والانتصارات الراسخة والمتراكمة بشكل دوري، حتى نحقق أهدافنا الوطنية الكاملة، ونستعيد مجمل حقوقنا. ولتكن البداية من أسباب الطبيعة المناطقية الطاغية على مجمل أشكال التحرّكات الشعبية النضالية الصاعدة راهنا، وهي بالمناسبة عائدة إلى عوامل ذاتية فلسطينية داخلية وموضوعية خارجية، خارجة عن إرادة الشارع الفلسطيني الجامعة والجذرية والوطنية، ورغبته وتوجهاته، وفق ما تعكسه الشعارات التي يردّدها المنتفضون في ساحات المواجهة المباشرة مع قوى الاحتلال الصهيوني، واستنادا إلى أشكال الدعم والمؤازرة الشعبية الحاصلة افتراضيا وميدانيا في باقي مناطق فلسطين وتجمعات لاجئيها خارجها.

وعليه، فإن طبيعة التحركات المناطقية ناتجة عن عوامل خارجة عن إرادة الفلسطينيين، من دون أن يعني ذلك عجز الشارع عن تغييرها، إن استهدفها بشكل مباشر في المرحلة المقبلة. ما هي هذه العوامل؟ وكيف يمكن تجاوزها في المدى القريب أو المتوسط؟ لكن وقبل البدء بذكر عنوانيها الرئيسيين، لابد من الإشارة إلى أن ترتيبها الوارد هنا لا يعكس ترتيب أولويتها، فهذا شأنٌ أخر يتطلب معالجة وتحليلا مختلفا قليلا، يمكن التطرّق له لاحقا في موضع آخر، وإن كنت أميل إلى اعتبارها ذات أولوية متساوية. وبناء عليه، فلتكن البداية من العوامل الخارجية، وبالتحديد الصهيونية، التي فرضت قيودا قانونية وديمغرافية وأمنية صارمة داخل فلسطين، قيودا تَحول دون تواصل التجمعات الفلسطينية مع بعضها بعض، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، الأمر الذي ينشئ فجوات عميقة يصعب ردمها بين ليلة وضحاها، ويقيم أولويات نضالية مختلفة بين هنا وهناك، وفق الظروف والحيثيات الحاصلة في كل منها، كما في خوض غزة معركة كسر الحصار، وانخراط القدس في معركة حمايتها من حملات التطهير العرقي الصهيونية، ومجابهة السرطان الاستيطاني في الضفة، ومعارك فلسطينيي 1948 المركّبة في مواجهة عنصرية الجهاز الصهيوني وفاشيته تجاه أرض فلسطين وشعبها.

لم يعد التحرير تحريرا بقدر ما تحوّل إلى مساومة رخيصة

في حين يكمن العامل الذاتي الفلسطيني في دور سلطة "أوسلو" ومجمل الجسم السياسي الفلسطيني (داخل منظمة التحرير وخارجها) الانقسامي والتقسيمي الذي يمارس خطابا وفعلا سياسيا وإعلاميا ذا طبيعة مناطقية وفئوية وانقسامية، بين لاجئين خارج فلسطين، ومقدسيين، وغزيين، وضفاويين، وفلسطينيي 1948، إذ ينطلق مجمل الجسم السياسي الفلسطيني من مخاطبة كل من هذه التجمعات على حدة، وفق الدور الذي يتطلبه ضبط مسارها النضالي، بما يحمي مشروع القوى السياسي التجزيئي والانهزامي الذي يتبناه الجميع من دون أي استثناء، فلم تعد فلسطين، وفقا لهم، ذاتها فلسطين التاريخية، كما لم يعد شعبها ذاته شعبها الأصلي الوارد تعريفه في الميثاق الوطني الأساسي، كما لم يعد التحرير تحريرا بقدر ما تحوّل إلى مساومة رخيصة. وبالتالي، لم يعد النضال وفقهم نضالا تحرّريا بقدر ما أصبح نضالا مساوما. وهو ما يعيق تطوير النضالات الشعبية وتكاملها هنا وهناك، بفعل العوامل الداخلية والخارجية التي ذكرناها بالعموم، من دون التعمق بتفاصيل (وتركيبة) كل منها.

نحتاج إلى تحويل النضالات من نضالات مناطقية ذات خطاب وقضايا مناطقية إلى نضالاتٍ فلسطينية

طبعا، يستحيل على الشارع الفلسطيني تجاوز ذلك كله بين ليلة وضحاها، في حين يمكن تجاوزه على المدى المتوسط وربما أسرع قليلاً، إن تمكّنا من وضع خطة عملٍ واضحة المعالم، عملية وسياسية على حد سواء، إذ لا تنحصر العوائق القائمة على المستوى الميداني فقط، بل لها ركائزها السياسية والإعلامية والأمينة، التي تتطلّب مسارا متكاملا، يكسر الحواجز المفروضة صهيونياً أولاً وذاتيا ثانياً، كي نستعيد وحدة القاعدة الشعبية ووحدة الهدف، فعلى المستوى الإجرائي نحن بحاجة إلى توطيد التواصل، ومن ثم العلاقات ما دون السياسية، أي على مستوى النشطاء والحركات الاحتجاجية والتمثيلية والنقابية والتخصصية، بما يتيح حدا أدنى من التنسيق والحوار، وتشابك الخطاب والرؤى من دون الفصائلية والحزبية السياسية. كما نحتاج على المستوى النضالي إلى تحويل النضالات من نضالات مناطقية ذات خطاب وقضايا مناطقية إلى نضالاتٍ فلسطينية تخاض على مستوى المناطق، أي علينا العمل على تطوير الخطاب والأهداف الآنية والمباشرة المستهدفة من قبل كل حركة نضالية مناطقية، بحيث تتسع قائمة الأهداف إلى ما يتجاوز حدود التقسيمات السياسية والجغرافية الصهيونية. وأخيراً، لابد من دعم (ومد) الجهود السياسية الرامية إلى فرز بنى سياسية وطنية وبرنامج تحرر فلسطيني، يستعيد منطلقات قضيتنا الرئيسية القائمة على وحدة الأرض والشعب والقضية، فهل نشهد تسارع هذا المسار قريبا؟

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.