ماذا بعد تجرّع الاتفاق الأميركي المسموم؟
ما تريده واشنطن وتفرضه على الجميع هو غزّة من دون المقاومة (حركة حماس وشقيقاتها)، ولبنان من دون حزب الله، هذا هو السلام الأميركي الإسرائيلي الذي خرج أنتوني بلينكن يتحدّث عنه أمس، وهو يزفّ ما اعتبره خبراً سعيداً عن اتفاق وقف القتال 60 يوماً في لبنان.
الراجح أنّ الاتفاق جرى توقيعه قبل يومين على الأقل من إعلانه، من دون أن يبادر أيّ طرف بإظهار مضمونه ومحتواه بالتفصيل، مكتفين بعبارات فضفاضة عن استناده إلى قرار مجلس الأمن 1701.
منذ الانتحار العربي الأوّل على يد أنور السادات فوق موائد مفاوضات كامب ديفيد، والخطر كلّه يكمن في الملاحق غير المعلنة الملحقة بالاتفاق الرئيس، إذ يقبع الشيطان في التفاصيل، وهو الحال مع اتفاق "برّي وميقاتي - نتنياهو" تحت رعاية المبعوث الأميركي، الصهيوني المخلص، عاموس هوكشتاين، وضغوطه وتهديداته.
ما يدور الحديث عنه أنّ ثمة مذكرة جانبية أميركية تمنح الكيان الصهيوني ما يبحث عنه منذ البداية، وهي حرية العمل داخل لبنان، جوًاً وبرًاً، إذا ما تعرّض لتهديد من المقاومة اللبنانية، ممثلة في حزب الله، حال عدم تدخل الجيش اللبناني لردع المقاومة (حزب الله).
هذا المضمون لو صحّ أنّه منصوص عليه في المذكرة الإلحاقية يجعل المعنى الوحيد لحرية العمل هو حرية الاحتلال في التصرّف داخل الأراضي اللبنانية، أي أننا سنكون بصدد رخصةٍ شرعيةٍ من الحكومة اللبنانية لإسرائيل بحرية الحركة داخل الحدود اللبنانية، فضلاً عن أنه يضع الجيش اللبناني في مواجهة المقاومة الوطنية اللبنانية الباسلة، صاحبة الموقف الأكثر نبلاً تجاه فلسطين ولبنان على مدى 14 شهراً من العدوان الإسرائيلي الأميركي المتواصل على غزّة ولبنان.
في اليوم الأخير قبل الذهاب إلى الاتفاق المسموم، كان الاحتلال الصهيوني يقصف رأس بيروت وقلبها، ربما على بعد خطواتٍ من مقرّ سراي الحكومة اللبنانية، التي بقي رئيسُها نجيب ميقاتي محافظاً على تفاؤله وشعوره بالنجاح في تحقيق إنجاز، بينما أرضه تُحرق وشعبُه ينزح وبلده يُهدّم من أطرافه الجنوبية والشرقية حتى عاصمته، عشرات البنايات في وسط بيروت سُوّيت بالأرض في ذروة موجة التفاؤل الإجباري القادم من واشنطن.
والوضع على هذا النحو، تبقى الأسئلة المهمة: هل كان منتهى النجاح والإنجاز لدى السلطة اللبنانية، ميقاتي ونبيه برّي، هو إعلان استقالة لبنان الرسمي من المأساة الفلسطينية؟ هل بات فكّ الارتباط بين مقاومة لبنان وإنهاء العدوان الصهيوني على غزّة انتصارًا وطنيًا لبنانيًا؟ ثم ماذا عن وضع حزب الله، سياسيّاً وميدانيّاً، بعد اليوم وهو الذي كان يشكّل أكثر من ثلث الحكومة اللبنانية المنتخبة، ويمثل عنوان الكرامة اللبنانية ويجسّد الانتماء اللبناني القومي لقدس أقداس القضايا العربية (فلسطين)؟ هل سيرضخ لبنان للإملاءات الأميركية الفرنسية الصهيونية، ويتعاطى مع مقاومة حزب الله بوصفها جماعات مارقة منفلتة عن سلطة الدولة؟
يبدو المستقبل مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، غير أنّ الحقيقة المؤكّدة بالدليل العملي على الأرض تقول إنّ مقاومة حزب الله كانت تمثل ذلك الغطاء الأخلاقي والإنساني والقومي للوطن اللبناني كلّه، في فترةٍ تنافس فيها المحيط العربي كلّه على من يخذل الشعب الفلسطيني أكثر، ومن يحارب مبدأ المقاومة أعنف، ومن يخدم السلام الأميركي (الإسرائيلي) المسموم بإخلاص أشد.
سيسجل التاريخ أنّ حزب الله اللبناني، الموصوف بحماقة من خبراء وهميين متنطّعين بأنه ذراع لإيران، كان الأكثر عروبة في وقت تنكّر فيه جلّ العرب لعروبتهم، والأقرب لفلسطين والشعب الفلسطيني حين تنازل العرب عن أخوّتهم له و"تناذلوا" معه، وأن بسالته النبيلة أرّقت النظام العربي الرسمي كله، وبيّنت تصاغره وتهافته، فتواطأ ضدّه الجميع كما تواطأوا على غزّة.
نعم حاصر العرب الرسميون حزب الله منذ قرّر أن يكون عربيّاً وشهماً وذا مروءة، ومثله فعل الحوثيون في اليمن وفصائل المقاومة العراقية، في وقتٍ اتخذت فيه الأنظمة العربية النذالة والجُبن خياراً استراتيجيّاً.
لذلك كله سوف يحفظ التاريخ في أنصع صفحاته صور حسن نصر الله ويحيى السنوار كأعظم ما أنتجت الأمة في القرن الحادي والعشرين.