ماذا بعد العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران؟

ماذا بعد العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران؟

08 يناير 2022
+ الخط -

يبدو أن مفاوضات فيينا الجارية منذ شهور بشأن برنامج إيران النووي دخلت بالفعل مرحلة حاسمة، قد تُفضي إلى انفراجةٍ قريبة. صحيح أن عقبات كثيرة لا تزال تعترض طريق التوصل إلى تسوية ترضي جميع الأطراف، خصوصا ما يتعلق منها بالضمانات التي تطالب بها إيران لردع الولايات المتحدة عن الانسحاب من الاتفاق مرة أخرى، إلا أن إدراك الحكومتين، الأميركية والإيرانية، حجم المخاطر الناجمة عن احتمال فشل هذه المفاوضات يدفعهما معا إلى السعي بجدّية لإنجاحها، لأن الفشل معناه فتح الطريق نحو حربٍ لن تحسم أي شيء، وستكون نتائجها وبالا على الجميع. لذا يرجّح أن تبذل كل الأطراف المشاركة فيها كل ما تستطيع للتوصل إلى تسويةٍ تسمح لكلتيهما بادّعاء أنهما حقّقتا أهم أهدافهما، أي لإيران بإجبار الولايات المتحدة على رفع العقوبات، وللولايات المتحدة بإجبار إيران على العودة إلى الالتزام بكل بنود اتفاق 2015 نصّا وروحا. ولكن ماذا تعني تسوية وفق صيغة "لا غالب ولا مغلوب" بالنسبة للأطراف المعنية بها، سواء كانت موقعة على ذلك الاتفاق أم لا؟ أعتقد أنها تعني أشياء تتباين كثيرا من طرف إلى آخر، فالتسوية، على أساس العودة إلى اتفاق 2015 من دون زيادة أو نقصان، تعني بالنسبة لإيران، أولا وقبل كل شيء، رفعا فوريا للعقوبات الأميركية المفروضة عليها، ما سيمكّنها من تحقيق هدفين على جانب كبير من الأهمية. الأول: عودة إلى ممارسة علاقاتها الطبيعية مع المجتمع الدولي، الحلفاء منه والأعداء على السواء، من دون عوائق أو حصار. والثاني: تخفيف حدّة الاحتقان الداخلي، بالعمل على تحسين مستويات معيشة مواطنيها بعد فترة تقشّف طويلة ومعاناة مريرة. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهي تعني، أولا وقبل كل شيء، إجبار إيران على تجميد برنامجها النووي، والحدّ من قدرتها على اكتساب المعرفة اللازمة لتصنيع السلاح النووي، على الأقل خلال المدى المنظور. وأما بالنسبة لبقية الأطراف الدولية الموقعة على اتفاق 2015، روسيا والصين وكبرى الدول الأوروبية، فالتسوية تعني، أولا وقبل كل شيء، احتواء أزمةٍ خطيرةٍ قد يؤدّي تفاقمها ليس فقط إلى زعزعة الاستقرار على المستويين، الإقليمي والعالمي، وإنما أيضا عرقلة مشروعاتها الخاصة بتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دولة كبيرة مثل إيران.

التسوية للولايات المتحدة تعني، أولا وقبل كل شيء، إجبار إيران على تجميد برنامجها النووي، والحدّ من قدرتها على اكتساب المعرفة اللازمة لتصنيع السلاح النووي

يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للدول المعنية بمفاوضات فيينا من دون أن تكون طرفا مباشرا فيها، كإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، خصوصا السعودية والإمارات وربما دولا أخرى كثيرة في المنطقة. ولأن معظم هذه الدول يرى أن التوصل إلى تسوية مع إيران لا تتضمّن وقف تطوير برنامجها الصاروخي والحدّ من أنشطتها الإقليمية سيؤدّي، حتما، إلى إطلاق يدها في المنطقة وتمكينها من التغلغل أكثر في الشؤون الداخلية لمعظم دولها، فمن الطبيعي أن تشعر بالقلق، وأن تسعى إلى التعاون معا من أجل احتواء التداعيات المترتبة على تسوية على أساس العودة إلى اتفاق 2015 ومحاصرتها، غير أن الموقف الإسرائيلي يبدو أكثر اضطرابا من كل المواقف الأخرى، ولديه من الأسباب ما يدفعه إلى الشعور ليس فقط بالقلق، وإنما أيضا بعزلة قد تصل إلى حد الاختناق، فإسرائيل لا ترى في النظام الإيراني الحالي مجرّد خطر يهدّد استقرارها الداخلي، وإنما خطرا يهدّد وجودها ذاته، بحكم قيادته محور المقاومة في المنطقة. ولأنها تدرك أن إلغاء العقوبات الأميركية المفروضة حاليا على إيران سيتيح للأخيرة موارد ضخمة تمكّنها من مضاعفة قدرتها على دعم محور المقاومة، والذي يضم سورية وحزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة، وتزويده بسلاح أكثر تطوّرا وبخبرات فنية عسكرية عالية المستوى أثبتت كفاءتها، فليس من المتوقع أبدا أن تشعر إسرائيل بالارتياح تجاه تسويةٍ كانت قد بذلت من قبل كل ما في وسعها لإجهاضها، ونجحت في ذلك فعلا عقب وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. بل إنني لا أتجاوز إن قلت إن إسرائيل سيتولد لديها شعور بالهزيمة المرّة إن أسفرت مفاوضات فيينا عن العودة إلى الاتفاق نفسه الذي سبق لها أن حاربته، ونجحت في إسقاطه. والسؤال: هل ستستسلم إسرائيل للهزيمة؟ وماذا عساها فاعلة؟

المنطقة ربما تكون مقدمةً على مرحلة صعبة، سواء نجحت مفاوضات فيينا أم لم تنجح

إذا احتكمنا إلى التصريحات الصادرة أخيرا عن المسؤولين الإسرائيليين، يمكننا أن نستنتج أن إسرائيل ستعتبر أي اتفاقٍ لا يلبي شروطها ومطالبها غير ملزم لها، ومن ثم فستعطي لنفسها حق التصرّف بما يتواءم مع مصالحها الخاصة، حتى لو وجدت نفسها مضطرّة للعمل منفردة وبدون تنسيق مع الولايات المتحدة. لكن، ما الذي تستطيع أن تفعله بدون الولايات المتحدة في مثل هذه الظروف؟ هنا يمكن أن نتصوّر أن تأخذ التفاعلات المستقبلية أحد مسارين:

الأول: يتمثل في عودة إسرائيل إلى ممارسة الأساليب القديمة نفسها التي سعت من قبل إلى القيام بهجمات محدودة، استهدفت إرباك إيران وشل قدرتها على مواصلة برنامجها النووي، كتدبير عمليات اغتيال ضد العلماء النوويين، أو شن هجمات سيبرانية على أهداف محدّدة داخل المنشآت النووية لتعطيل أجهزة الطرد المركزي، أو غير ذلك من العمليات المشابهة. غير أن هذا السيناريو تمت تجربته من قبل، ولم ينجح في تحقيق نتائج حاسمة، فضلا عن أن العودة إليه بعد التوصل إلى تسوية ستثير مشكلاتٍ تختلف تماما عن التي كان يمكن أن يثيرها إبّان فترة العقوبات الأميركية، فاللجوء المتكرّر إلى هذا النوع من الهجمات سيؤدي إلى تعقيداتٍ إضافيةٍ قد لا تصبّ في صالح إسرائيل في النهاية، فإذا تغاضت إدارة بايدن عنها ولم تمارس ضغوطا على إسرائيل لوقفها، فسوف يثير هذا الموقف شكوكا إيرانية بشأن ضوء أخضر أميركي يعكس تواطؤا ومشاركة في لعبة توزيع للأدوار مع إسرائيل، الأمر الذي قد يدفع إيران إلى التهديد بالتحلل من الاتفاق، والعودة إلى سياسة التصعيد النووي، وهو ما لا تريده إدارة بايدن قطعا. أما إذا أقدمت على إدانة هذه الهجمات، وراحت تمارس ضغوطا على إسرائيل لوقفها من دون أن تنجح في ذلك، فقد يؤدّي هذا الإخفاق إلى تشجيع إيران على الردّ بهجمات نوعيةٍ ضد إسرائيل قد تحرج الولايات المتحدة نفسها، وتستحثها على التدخل لحماية إسرائيل. وفي الحالتين، ستبدو إيران، الملتزمة بالتسوية نصا وروحا، في موقف الضحية، بينما ستبدو إسرائيل في موقف الدولة المعتدية، ما سيزيد من عزلتها ومن ضغوط المجتمع الدولي عليها.

المسار الثاني: يتمثل في إقدام إسرائيل على عمل عسكري واسع النطاق، يستهدف تدمير مفاعلات إيران النووية كلها عبر ضربة واحدة ساحقة ماحقة. ويرى معظم الخبراء العسكريين أن إسرائيل غير قادرة على القيام بهجوم من هذا النوع، إلا في حالة تعاون دول عربية مجاورة لإيران ومشاركتها، من خلال السماح بانطلاق الطائرات الإسرائيلية من قواعدها القريبة جغرافيا من إيران، وهو أمر يبدو مستبعدا. وحتى بافتراض تمكّن إسرائيل من إقناع دول عربية أو ابتزازها لحملها على التعاون معها في هذا الصدد، يرى معظم الخبراء العسكريين أن الضربة الجوية وحدها، مهما بلغت قوتها، لن تؤدّي إلى تحقيق الأهداف المرجوّة. وفي جميع الأحوال، لن تحدّ من قدرة إيران على الرد عسكريا عبر جبهات متعدّدة، ما قد يهدّد باندلاع حرب شاملة في المنطقة.

إسرائيل ستعتبر أي اتفاقٍ لا يلبي شروطها ومطالبها غير ملزم لها، ومن ثم ستعطي لنفسها حق التصرّف بما يتواءم مع مصالحها الخاصة

إذا صحّ هذا التحليل، فمعنى ذلك أن المنطقة ربما تكون مقدمةً على مرحلة صعبة، سواء نجحت مفاوضات فيينا أم لم تنجح، فنجاحها متوقفٌ على موافقة الولايات المتحدة على العودة إلى اتفاق 2015 من دون أي تعديل ورفع العقوبات كليا ونهائيا عن إيران، وهو ما ترفضه إسرائيل بالمطلق. أما فشلها فقد يفتح الطريق إلى حرب شاملة في المنطقة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن الفشل قد يفتح الطريق أمام حربٍ تقودها الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل، وإن النجاح قد يفتح الطريق أمام حربٍ تقودها إسرائيل بالتعاون مع بعض الدول العربية. ولأن النتائج المترتبة على كلا الاحتمالين تبدو أكبر من قدرة جميع الأطراف المعنية على احتمالها، فسوف تتقاطع الضغوط القادمة من مختلف الاتجاهات للبحث عن سيناريو ثالث، وهو العودة إلى اتفاق 2015 كما هو، مع التزام إيران، في الوقت نفسه، بتغيير سياساتها في المنطقة، أو على الأقل قبول فكرة البحث الجادّ عن حلول لأزمات المنطقة، عبر مؤتمر دولي تشارك فيه مع الدول المعنية كافة بما فيها إسرائيل.

غير أن جدّية أي مؤتمر دولي يستهدف البحث عن تسويات حقيقية لأزمات المنطقة تتوقف على شروط كثيرة، أظن أن أهمها على الإطلاق قبول إسرائيل، من ناحية، بتحويل منطقة الشرق الأوسط كلها إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. ومن ناحية أخرى، بانسحابها من كل الأراضي العربية المحتلة بعد 1967، وهي شروط لا أظن أبدا أن أي قيادة إسرائيلية يمكن أن تقبل بها تحت أي ظرف. هكذا، يعود بنا التحليل إلى نقطة الصفر، وإلى الحلقة المفرغة نفسها التي تدور فيها المنطقة منذ عقود، فهل ستنتهي مفاوضات فيينا بنجاحٍ يفتح الطريق أمام حرب تقودها إسرائيل، أم بإخفاق يفتح الطريق أمام حربٍ تقودها الولايات المتحدة؟

ألم أقل لكم دائما إن إسرائيل كانت ولا تزال أساس المشكلة وليس الحل؟ لكني أعتقد جازما أن المأزق الذي دخلته حركة التفاعلات في المنطقة حاليا أميركي إسرائيلي أكثر منه إيرانيا.

حسن نافعة
حسن نافعة
كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة