ليسوا دعاة ولا قضاة

ليسوا دعاة ولا قضاة

25 أكتوبر 2021

(وليد المصري)

+ الخط -

"ريش على مفيش" مثل شعبي مصري يشير، في معناه المباشر، إلى الطائر الذي يحيطه ريش كثيف، فيما هو نحيل الجسد ضعيف البِنية. ويُطلَق هذا المثل على كلّ شخصٍ أو شيء يتحلّى بمظاهر الفخامة والأبهة، من دون محتوى حقيقي يستحق الزهو أو يبرّر المباهاة. تذكّرت هذا المثل الدارج بين المصريين، حين أحدثَ فنانون مصريون ضجّة في مهرجان الجونة السينمائي، في احتجاجهم على عرض فيلم اسمه "ريش". ففي عرض خاص له في المهرجان، غادر الممثل شريف منير وآخرون القاعة، اعتراضاً على محتوى الفيلم. واعتبروا أنّه يسيء إلى مصر، لأنّه يتناول قصة أسرة فقيرة في منطقة عشوائية، تواجه أقسى درجات شظف العيش وأشدّ هموم الحياة اليومية. وحسب تعبيره، فإنّ مصر التي يقدّمها الفيلم "ليست مصر التي يعرفها". لكنّ المسألة ليست في علم شريف منير وأقرانه أو جهلهم بأوضاع عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر، فهذا يتعلق بمدى صدق ما يروّجه أولئك المحسوبون فنانين أو زيفه عن إدراك الواقع ومعايشته بكل مضامينه. والأرجح أنهم منفصلون عنه نفسياً ومعرفياً.
المسألة المهمة في الواقعة المثيرة تتعلق بالتناقض الصارخ بين مواقف هؤلاء الفنانين والمثقفين بين حالةٍ وأخرى، فحين يتناول الأدب والفن أو تعرض السينما موضوعات لها طابع ديني أو قيمي، أو تتعارض مع مقدسات ومبادئ راسخة في ثقافة المجتمع العربي أو الإسلامي، ينتفض هؤلاء مدافعين عن الحق في الإبداع، ويرفعون شعار لا قيود ولا حدود للفن. ويزعمون أن أي انتقاد أو تصوير لشخصيات أو ظواهر سلبية لا يعني التعميم. أما حين تظهر على الشاشات بعض أشكال الفقر المتفشّي في المجتمع، أو يتناول عملٌ فنيٌّ الكبت السياسي أو مظاهر غياب الحرّيات، سرعان ما تتحرّك قرون الاستشعار لدى المزايدين والمتنطّعين في الوطنية، وتنتابهم حالة رجفة شوفينية. وينصبون محاكم تُفتّش في النيات، وتتربّص بما يقال وتنبش في ما لا يقال.
وبعيداً عن الاتفاق أو الاختلاف مع هؤلاء في أولوية تقديس الوطن على ما عداه من مقدّسات، فإنّ القداسة لا تحصّن من يتمسّحون فيها زوراً، ولا تحميهم من النقد والتجريس. بل إن فضحهم واجبٌ مقدّس، تنزيهاً للدين والوطن والقيم والأخلاق من دنس المتنطّعين والمنتفعين.
مشكلة هؤلاء أنهم يقولون ما لا يفعلون، ويرسبون في أي اختبار واقعي لشعاراتهم الجوفاء ومقولاتهم التي يتكسّبون منها، فيطلبون حريةً مطلقة، لا شروط عليها ولا حدود لها، في أي عملٍ يسايرهم ويتوافق مع توجهاتهم أو أوامر من يوجّهونهم. ويُحاججون من يخالف ذلك بأن مواجهة الرأي والكلمة والصورة لا تكون إلا بالمثل. أما مع المخالف فالوضع على النقيض، إذ لا مكان لحرية ولا لمساحة للتفاهم، ولا حتى لسماع رأي آخر، أو تقبّل طرح معاكس، فهو في هذه الحالة متآمرٌ بالضرورة.
كذلك الأمر بالنسبة للمفاهيم والتوصيفات، فالإساءة والتجاوز والانتقاص والنيْل من الهيبة، وغير ذلك من الأوصاف ذات الطبيعة القيمية، هي عند هؤلاء مطّاطة وقابلة للتضييق والتوسيع، على حسب الناقد والمستهدف بالنقد. ويكفي لتوضيح ما وصلوا إليه من مزايدة وافتعال مقيت أن المسؤول عن ملف العشوائيات في مصر أعلن أن الدولة تتعامل مع هذه القضية بواقعية وبخطّة محددة وواضحة، وأن الفيلم محل الجدل لا يسيء إلى مصر، فهي أكبر من ذلك.
يفتقر كثيرون من أهل الفن والإبداع في مصر إلى الاتساق مع الذات. وما أحوجهم إلى نفض ريشٍ كثيفٍ يحيطون به عقولاً نحيلة ونفوساً مريضة. إلى توحيد المعايير والكفّ عن المزايدة بما ليس مطلوباً منهم، فكما أنهم ليسوا دعاة، هم ليسوا قضاة أيضاً.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.