ليسوا أرقاماً

14 ابريل 2025
+ الخط -

علينا ألا نتوقّف عن الكتابة عن صحافيّي غزّة. ليس هنالك ما يقال أكثر ممّا قلناه، وهو أنهم يقتلون في العتمة وكأنّهم أرقام لا معنى لها، وأننا عاجزون عن أيّ مبادرة لوقف قتلهم أو حتى التخفيف من معاناتهم. سنكرّر ما قيل عن لامبالاة الإعلام والسياسة الغربيَّين بمصير هؤلاء الذين تُركوا لمصيرهم ليموتوا. من الصعب أن نتخيّل كيف يستمرّون في تغطية حرب الإبادة في حين أنهم تحوّلوا أحد أهدافها. من الصعب مشاهدة الفيديو المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي لقصف خيمة تضمّ صحافيين قرب مستشفى ناصر في خانيونس، ما أدّى إلى مقتل الصحافي حلمي الفقعاوي، وإصابة زميله أحمد منصور بحروق بالغة، أدّت إلى وفاته لاحقاً. مشهد صراع الصحافي مع النيران تحوّل أيقونةً جديدة في حرب الإبادة. هل نتفرّج على مشاهد الحريق باعتبارها مادّةً إخباريةً مهمّةً، وشاهداً على العنف غير المسبوق في استهداف صحافيين، أم نمتنع عن المشاهدة احتراماً لكرامة الضحايا، وهي كرامة قد هدرها مستوى العنف اللاإنساني؟ ما نفعل بصور القتل الجديدة التي ستأتينا حتماً لمزيد منهم؟ هل نكتفي بإحصاء عددهم وتناقل مشاهد قتلهم، ومتابعة بضع بيانات من هيئات حماية الصحافيين؟

لم يعد العمل الصحافي عملاً، بل بات مهمّةً إنسانيةً، ومسؤوليةً عن نقل صورة الإبادة التي لا يريد العالم أن يشاهدها

ارتفع عدد الصحافيين ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية في غزّة، أخيراً، إلى مائتي صحافي وعامل إعلامي، بحسب نقابة الصحافيين الفلسطينيين، منذ 8 أكتوبر (2023)، في حين قدّر معهد واتسون للشؤون الدولية والعامّة (وهو مركز أبحاث أميركي) أن العدد بلغ 232 ضحيّةً منذ التاريخ نفسه، في الحرب التي اعتبرها النزاعَ الأكثر دمويةً على الإطلاق للعاملين في مجال الاعلام. يقدّم القانون الدولي حمايةً خاصّة للصحافيين باعتبارهم مدنيين لا يجوز استهدافهم من الأطراف المتحاربة، إلا أن آلة القتل الإسرائيلية تجاوزت المعايير الدولية (وغيرها) في شهوة الانتقام. بحسب تقرير المعهد الأميركي نفسه، يقتل 13 صحافياً وعاملاً إعلامياً كلّ أسبوع، في معدّل وسطي، في ما يبدو استهدافاً لهم بغرض إسكات أصواتهم. تظهر هذه النسبة العالية أن ضحايا حرب الإبادة من الصحافيين تفوق عددهم في الحربَين العالميتَين وحرب فيتنام وحروب يوغوسلافيا والحرب في أفغانستان، بحسب التقرير نفسه. تحوّل هؤلاء إلى مجرّد أرقام أسوة بالضحايا الذين يغطّون أخبار مقتلهم.
جاء مقتل حلمي الفقعاوي وأحمد منصور، بعد إصابة الأخير بحروق بليغة لم ينج منها، ضمن سلسلة قتل متصاعد للصحافيين في الأسابيع الماضية. قتلت الصحافية إسلام المقداد مع طفلها في قصف بخانيونس، وكانت غرّدت قبيل مقتلها: "اسمي إسلام، وعمري 29، وهذا شكلي في الصورة الشخصية، وأكثر ما يخيفني هو ذكر موتي في استهداف من العدو، كرقم". قبلها بأيّام، قُتل الصحافي يوسف حسّونة، وقبله الصحافي في قناة الجزيرة مباشر، حسام شبات، البالغ 23 عاماً. وكان قد قال إنه سيواصل تغطية الجرائم الإسرائيلية "حتى آخر نفَس"، وكان قد تمكّن من لقاء والدته قبل أيّام من مقتله، كما تمنّى في تغريداته الأخيرة. شبات، الذي قتل في استهداف إسرائيلي مباشر بحجّة أنه عضو في حركة حماس، كما عديدين غيره من الصحافيين، كان صرّح للجنة حماية الصحافيين (مركزها في نيويورك)، قبل أشهر: "ننقل الحقيقة عبر قناة الجزيرة مباشر، ونتحرّك في المناطق التي تصنّفها إسرائيل آمنة. نحن مواطنون، وننقل أصواتهم. جريمتنا الوحيدة أننا ننقل الصورة والحقيقة".
القائمة طويلة، ولعلّ المطلوب أرشفةٌ مباشرةٌ، ليس لأعداد القتلى فقط، وإنما أيضاً لحيواتهم وإنجازاتهم الصغيرة قبل قتلهم في شبابهم اليافع. إنهم ليسوا أرقاماً. لم نكن نعرف كثيراً عن هؤلاء الشبّان والشابّات، وليسوا من نجوم الإعلام العربي، ولا من مساهمي الإعلام الأجنبي. بعضهم بات تحت الأضواء بعدما استعانت وسائل الإعلام الغربية بهم أخيراً للتغطية في غزّة، بعدما مُنعت من الدخول إلى القطاع. تحوّل هؤلاء الشبّان والشابّات أبطالاً للتغطية الإعلامية في ساحة فائقة الخطر، قد لا يرغب الإعلام الأجنبي في دخولها، حتى إن سمح له بالدخول. إلا أنهم أبطال مؤقّتون، يعرفون أن وقوفهم فوق خشبة المسرح محدوداً بالوقت المتاح لهم للعمل، قبل أن يصبحوا هدفاً جديداً للقتل الإسرائيلي. باتت مهمّة تغطية مقتل زملائهم جزءاً أساساً من هُويَّتهم، كما باتت تغريداتهم شاهداً على ترقّبهم الموت، وحرصهم على اللغة التي ستستخدم في وصفهم استباقاً لما سيُكتب عنهم. إنها صورتهم عن أنفسهم التي يريدونها أن تنتصر على آلة القتل. بالنسبة إليهم، لم يعد العمل الصحافي عملاً، بل بات مهمّةً إنسانيةً، ومسؤوليةً عن نقل صورة الإبادة التي لا يريد العالم أن يشاهدها. عبّر عن ذلك الصحافي عبد شعث في تشييع زميله حسام الفقعاوي: "سنواصل إيصال الرسالة ونقل الحقيقة للعالم أجمع. هذا واجبنا الإنساني".

يفوق ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية من الصحافيين عددهم في الحربَين العالميَّتَين وحروب فيتنام وأفغانستان ويوغوسلافيا

نقف عاجزين نراقب القتل المتصاعد لصحافيّي غزّة، واحدهم بعد الآخر، وكأنّهم عصافير يصطادها قنّاص. نلوم الإعلام الغربي على غياب التضامن معهم إلى حدّ تغييب أخبار قتلهم أو حصرها في مساحات ضيقة، إلا أننا نتناسى أنهم أيضاً لا يشكّلون مادّة اهتمام للإعلام العربي، ولا يُعتبر قتلهم مادّة تحتلّ العناوين الرئيسة للنشرات الإخبارية، بل مجرّد خبر عابر. المطلوب، ليس فقط تعداد القتلى في صفوفهم وتوثيق مقتلهم في سطور قليلة، بل حملة ضغط إعلامية وحقوقية من أجل محاولة وقف قتلهم، وإن كان الأمر يبدو مستحيلاً، أو تحويل قضيتهم عنواناً رئيساً في محاسبة الجرائم الإسرائيلية أسوةً بالصحافيين ضحايا القتل الإسرائيلي من العاملين في كُبريات المؤسّسات الإعلامية، الذين حملت مؤسّساتهم قضية قتلهم إلى القضاء والمحافل الدولية. إنهم يستحقّون الحياة، أقلّه الاعتراف بهم باعتبارهم صوت ضحايا الإبادة.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.