ليست المعضلة إعمار غزّة

17 فبراير 2025
+ الخط -

ليس جديداً أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يتعاطى مع مختلف الملفات والقضايا بمنطق التاجر الذي يحسب مكاسبه وخسائره وتكلفة الفرصة البديلة لأي خطوةٍ يُقدم عليها. الجديد الذي تكشف، أخيراً، مع بدء ولايته الثانية، هو ذلك القدر الكبير من الاستسهال والتبسيط لدى التفكير في إمكانية تقبل الآخرين طروحاته. كما لو أن العالم أجمع ليس سوى باعة ومشترين، وإن لم يكن الأمر كذلك، فهذه ليست مشكلة ترامب؛ إذ يجب أن يُحوّل الجميع أنفسهم إلى حزمة من التّجار، أياً كانت السلعة أو الموضوع محل المقايضة. وتساعد ترامب على ذلك أمور عدّة، لعل أهمها حالة الرّهاب التي أصابت كثيرين، ومن بينهم معظم العرب، تجاه بلطجي العالم المعاصر.

بذلك، يمكن فهم استسهال ترامب طرح فكرة إخلاء غزّة من سكّانها، وتحويلها إلى منتجع سياحي. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير تراجع ترامب عن طرحه، وكونه لم يعاند ويتمترس حوله كما كان يخشى بعضهم، وأصيبوا برجفة منه. وفي السياق ذاته، يأتي تقبل أركان إدارة ترامب الاستماع إلى أفكار وطروحات أخرى، ليس فقط بشأن كيفية إعادة الإعمار، بل أيضاً بشأن المستقبل وطريقة إدارة القطاع.

خلاصة ذلك كله أن غزّة لا تمثل أهمية كبرى، لا بالنسبة إلى ترامب، ولا أيضاً لدى إسرائيل، عدا أنها مصدر دائم لصداع وتهديد محتمل مستمر. ولم يكن "طوفان الأقصى" سوى جرس إنذار حادّ وتنبيه قوي إلى ضرورة درء ذلك التهديد استراتيجياً، أي بصورة دائمة وكاملة. ولمّا كان جوهر التهديد يكمن في فصائل المقاومة ونزوع الفلسطينيين المدنيين في القطاع إلى استخدام القوة بأشكالها ودرجاتها لمواجهة شظف العيش والحصار الشامل المفروض عليهم منذ عقود؛ فالحل ببساطة هو التخلّص من تلك "الكائنات" مصدر التهديد. وبعد 15 شهراً من الإبادة الجماعية لهم، يبدو الحل المناسب لتل أبيب وواشنطن تصدير العدد المتبقّي منهم، قلّ أو كثر، إلى مكان آخر في دولة أخرى تتولّى مسؤولية حياتهم وبقائهم، والأهم أن تكون مسؤولة عنهم وعن تصرّفاتهم وتحركاتهم.

ربما لموقع القطاع بعض الدلالات ذات الصلة بمشروعات إسرائيلية مؤجّلة، كقناة البحرين أو خط السكك الحديدية أو غير ذلك من أفكار لممرّات نقل تجارية للطاقة وغيرها بديلة لقناة السويس. لكنها تظلّ أموراً معقدة، وتتداخل فيها اعتبارات كثيرة. ومن ثم، لا أهمية استثنائية أو حيوية لغزّة أرضاً أو إقليماً أو موارد، أهميتها الحقيقية في خطورتها (بالنسبة إلى إسرائيل) المرتبطة بوجود من يعيشون عليها ويرفضون الخضوع لاحتلالٍ بعد حصار وحشي.

ولذلك، لا مشكلة عند ترامب في إيجاد حلول وأفكار بديلة لإعادة الإعمار، بل ولا شيء يقلقه بالمرّة إن لم تجر إعادة الإعمار أصلاً. المهم عنده ألا تستمر غزّة مصدر تهديد وصداع لإسرائيل، وبالتالي لواشنطن. وإن كان في ترحيل سكّان غزّة حل للمشكلتين معاً، التهديد والبقاء أصلاً في هذه البقعة، فلا غضاضة من الاستماع إلى طروحاتٍ مختلفة. وإن ظنّ العرب أن القصة كلها في كيفية التشييد والبناء مع إبقاء سكان غزّة داخلها، فهم مخطئون.

ذلك هو الجزء اليسير والظاهري في المشكلة، فما إن يتقدّم العرب بخطط بديلة للإعمار واستعادة البنية التحتية، واستنهاض عمارة القطاع مرّة أخرى مع بقاء سكانه، سيجد العرب أنفسهم في مواجهة لحظة الحقيقة، مطالبين بالإجابة عن السؤال الكبير: من سيضمن وقف التهديد؟ والإجابة مرتبطة عضوياً بتحديد هوية من سيحكُم القطاع ويدير شؤونه. ذلك هو السؤال الجوهري الذي لا يملك أحدٌ إجابته، لا أي عاصمة عربية ولا واشنطن ولا تل أبيب ولا الفلسطينيون المنقسمون على أنفسهم.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.